[8] يوسف زيدان.. سفينة “عزازيل” دمّرت قارب “فردقان”
محمد الماجد
هل حدث أن قرأتَ رواية لكاتب معين وتحمست لها للدرجة التي دفعك فيها الحماس للسعي وراء قراءة رواية ثانية للكاتب نفسه لتفاجأ بأنها لم تكن سوى ظل للرواية الأولى..؟
يبدو أنني مررت بهذه التجربة التي لم أحسن التعامل معها. كنت أنوي الكتابة عن رواية (فردقان) وشخصية الشيخ الرئيس، ولكني لم أتخيل أنني سأعود للكتابة عن رواية (عزازيل)، كلتا الروايتين لـــ يوسف زيدان … وكل واحدة منهما تحيل إلى الأخرى، وكأنهما على طرفي طاولة هوكي:
توسلات هيبا (عزازيل):
“… إلى متى يارب أستغيث بك، فلا تسمع، إلى متى أصرخ إليك من الجور، فلا تخلص؟ لماذا تريني الإثم، وكيف تطيق النظر إلى البؤس؟ الاغتصاب والعنف ينتصران أمام عيني، والخصام والنزاع يسودان كل مكان”.
توسلات ابن سينا (فردقان):
“أقدارك محيرة يا مبدع الكون، لماذا خلقتني في هذا الزمان الرديء، ولماذا تعذب ما صنعته وأسبغت عليه صنائعك، خلقته بحكمتك، وسويته بيدك، ونفخت فيه من روحك، ثم تتركه في هذا الهوان وهذه الأهوال، لماذا؟”
هذا النصان سيقودانني إلى سؤال متأرجح:
إلى أي حد كان يوسف زيدان واقعاً تحت تأثير شخصية هيبا الراهب بطل رواية (عزازيل) وهو يعالج شخصية الشيخ الرئيس ابن سينا بطل روايته الأخيرة (فردقان)؟
وإلى سؤال آخر أقل تأرجحاً:
إلى أي حد كان يوسف زيدان واقعاً تحت تأثير (عزازيل) حال كتابته لــ (فردقان)؟
وحتى إذا ما قفزت على هذه النوبة من الأسئلة المتأرجحة حول حقيقة الشبه بين الروايتين التي لن تكون توسلات هيبا وابن سينا الآنفتين سوى رأس جبل الجليد فيها، فبطلا الروايتين يشتركان في كونهما طبيبين، وشاعرين، ومشتغلين باللاهوت، وقد وقع كل منهما في العشق أيضاً، (أوكتافيا ومرتا) في حالة هيبا، و(سندس وروان وماهتاب) في حالة ابن سينا، وإلى هنا لا بأس، لكن أن يكون هناك تطابق حتى في عدد الأيام المخصصة للخلوات الأفروديتية لكلٍّ من البطلَين:
خلوة اوكتافيا (عزازيل):
“أمضيت مع أوكتافيا فوق سطح المنزل ثلاث ليال سوياً، فلم يشعر بنا أحد سوانا”
خلوة روان (فردقان):
“لم يفارق ابن سينا منزله لمدة ثلاثة أيام، لم يخرج خلالها من غرفته إلا نادراً، وكذلك روان”
خلوة ماهتاب (فردقان):
“وبعدما ذابت بينهما الثلوج، تدفقت الأنهار وتوهجت النار ثلاثة أيام سويّاً، ليس فيها إلا الخمود التام نهاراً والاحتدام الأتم من بعد الغروب إلى الفجر. رأى من فنونها الأعاجيب”
لا بد أن يكون هذا الشيء لافتاً لأي عابر، وحتى إذا ما أغمضت عيني عن مدى الشبه الذي يجمع بين سحنات تلك الخلوات التي بدت لي وكأنها مصابة بمتلازمة داون، لا أدري كيف سأتجاوز عن بنية لغتها الأسلوبية وعن الطريقة التي رص بها زيدان كلماته فجعلها تبدو وكأنها أحجار دومينو متشابهة، وبأرقام تكاد تكون متسلسلة، مع التنويه بأنني لم أرغب في أيٍّ من الأوقات في عقد مقارنات من هذا النوع الذي أقوم به الآن، لا في تتبع أشكال الحروف، ولا الانشغال بعدّ الفواصل والنقاط وعلامات التعجب، ليست هذه طريقتي في الاستقراء وحساب الاحتمالات على كل حال.
أنا شاعر في نهاية المطاف، وإذا ما دار الأمر بين أن أصطف إلى جانب عريان السيد خلف أو أرسطو فسأختار عريان بالطبع، ولكن اهتمام زيدان الاستثنائي بآلة العقل (المنطق) هو ما دفعني لارتكاب حماقة هذا السلوك مع معرفتي المسبقة بأنني سأحتاج معه إلى غسيل معدة، وما زاد من وتيرة اندفاعي، واستعدادي لتحمّل الأذى الذي سيلحق بي، هو أنني وجدت في موضوع الشبه بين الروايتين مادة دسمة وفرصة نادرة لمتحمس مثلي كي يلقي درساً تحضيرياً في معنى (الاستقراء التام)، ومع تقديم اعتذاري لسدنة العقل والقيمين على حسن سير آلته المدللة، لن أتردد في تحشيد المفردات ولا في تأليب اللغة وإشعال الحرائق إن لزم الأمر لإثبات صحة فهمي لطريقة عملها، من هنا سأكمل حديثي لأقول بأن القارئ للرّوايتين ربما سيفاجأ بأن ابن سينا تفوّق على هيبا في أمر لم يستطع الراهب مجاراته فيه، فخلوات ابن سينا مع النساء بلغت من الكثرة بحيث أن اسطورة عمر بن أبي ربيعه ستبدو موالاً حزيناً أمام ما فعل، ومن خلال سرد زيدان ليوميّات الشيخ الرئيس، سنذهب إلى ما هو أبعد، حيث سنكتشف مدى ولعه بالشراب والأغاني والقيان، وللدرجة التي سيخصص لها مجلساً ثابتاً بعد صلاة العشاء مباشرة، هذا الوقت ذاته الذي كان يخصصه هيبا عادةً للمطالعة في مكتبة الدير، على أن (حبة المسك) هذه التي وضعها زيدان في كفة الشيخ الرئيس لن تخل بالميزان بينهما كثيراً، فهذه ليست السِّمات الوراثية الوحيدة بين بطَلَي زيدان، فالمزيد من العلامات ستظهر تطابقاً في الحمض النووي بينهما، فكلاهما كان مسجوناً، ابن سينا في قلعة فردقان، وهيبا في الدير، مع التنويه بأن سجن هيبا كان (طوعيّاً) ولمدة ليست باليسيرة من عمر (عزازيل)، وقد وصل حدّ التشابه بينهما حتى إلى المكان والطريقة التي سيكتري فيها البطلان حماراً لقطع الصحراء:
حمار (عزازيل):
“على باب (الدير) لقيني سقاء نحيل أعرج …. أوصاني: لا تدع البحر يغيب عن عينك، ولا تدخل جوف سيناء لأي سبب، وإلا فلن تخرج منه أبداً، وابحث عن حمار تركبه، فهذه الصحراء لا يمكن عبورها مشياً”.
حمار (فردقان):
“قرب قرية نائية بالضفة الغربية من النهر نزلا من القارب، ومن خادم (كنيسة) صغيرة بطرف القرية، اشترى ابن سينا حمارين هزيلين وما يلزم من الزاد والماء، ومضيا في سبيلهما غرباً من دون ابطاء، امتداد الصحراء المقفرة مهيب مقلق”.
وكأن هيبا هرّب لابن سينا خطته لعبور الصحراء، الخطة التي ستبدأ بالدير أو الكنيسة، ثم بشراء الحمار، ثم البدء بالرحلة، وسنجد من هذا الأثر الكثير، وحتى هيباتيا، حكيمة (عزازيل)، عالمة الفلسفة والرياضيات الاسكندرانية الشهيرة، ومن ساعدت أباها في تدوينه لشروح كتاب بطليموس، حتى هيباتيا هذه لم تسلم من هواية زيدان القاتلة في صنع الشبيه حينما قرر أن يزرع لها معادلاً في النبوغ والجمال الفائقين على أرض (فردقان): الشيرازية ماهتاب، المهتمة – هي الأخرى – بالفلسفة والطب، ومن ساعدت – هي الأخرى – معلمها ابن سينا في تدوينه لكتاب (الشفاء)، والطامحة لتأليف كتاب تجمع فيه بين الآراء الطبية لــ أبقراط وجالينوس.
وهناك أمر ربما يكون أكثر أهمية فيما يتعلق بهواية زيدان، هذا الأمر له صلة بكل تلك الأسئلة الفلسفية والكلام حول اللاهوت والنزاعات السياسية التي تكاد تكون نفسها في مضمون الروايتين ولكنها انتقلت من حقل اللاهوت والنزاعات الطائفية المسيحية المسيحية والمسيحية الوثنية في (عزازيل)، إلى حقل اللاهوت والنزاعات الطائفية الإسلامية في (فردقان)، وهذا الاقتفاء من (فردقان) لأثر (عزازيل) سينسحب حتى على اختيار زمن الرواية مع مراعاة الفارق في التقويم، فالأولى وقعت في القرن الخامس الهجري، والثانية في القرن الخامس الميلادي، مع كل ما يشيعه هذان القرنان من خوف واضطراب في النفس حتى لحظتنا هذه!!.
بالنسبة لي، (عزازيل) شكّلت دائماً الحديقة الخلفية لــ (فردقان)، ولن أجد أفضل من جملة نهاد قلعي الشهيرة، ولا أكثر تندّراً من لسان حسني البورظان لأعبر بهما عن مبدأ السببية الذي يربط بين الروايتين: “إذا أردنا أن نعرف ماذا في البرازيل، يجب أن نعرف ماذا في ايطاليا“، فكثير من المشاهد والأحداث كانت تأتي لـــ (فردقان) من ذلك الحقل البدائي (عزازيل)، على أن ابن سينا كثيراً ما كان يكافح لتنبيه زيدان كي يخرجه من ورطة الشبه هذه، ومن الحفرة الروائية التي تجمعه بهيبا الراهب، فابن سينا هو ابن سينا، يبقى واحدة من العلامات الفارقة في التاريخ البشري، وهو إلى جانب جابر بن حيان، والحسن بن الهيثم، والخوارزمي، والخاجة نصير الدين الطوسي …. وآخرين، طالما شكلوا أرخبيلاً كونياً من المستعرات العظمى ما زالت الانفجارات المتتالية للبلازما الداخلية لها تعشي بصر العالم، فمن هو هيبا الراهب هذا؟!، وماذا سيفعل هذا النيزك الخجول أمام كل هذه المستعرات العملاقة؟، ربما هذا ما كان يكرره ابن سينا بينه وبين نفسه مرات ومرات إلى أن تنبه له زيدان في نهاية المطاف فراح يسرد آثار الشيخ الرئيس مبتعداً شوطاً لا بأس به عن تأثيرات هيبا، حيث بدأ يجرد مؤلفات ابن سينا ومواقفه وكأنه في بداية مزاد ليوم روائي طويل، كما حرص على سرد الكثير من مؤلفات الشيخ الرئيس ومواقفه (منجّمةً) مع ذكر (الأسباب) من وراء تأليفها، يسرد ذلك في رويّة وصبر، وكأنه استعار لسان وجبّة أحد محدّثي القرن الثاني الهجري، دون أن يُعد هذا خدشاً لسويّة زيدان الروائية بالطبع إلا بالقدر الذي يكون فيه قد خرج من حدود (الرواية) إلى حدود (التاريخ)، فرسالة ابن سينا عن (القولنج) مثلاً كتبها بسبب انتشار هذا العارض المعوي بين الناس حينها، وكتاب (الشفاء) أراد من ورائه تنظيماً أكمل للعلاجات وطرق الأدوية يعالج بها الفوضى التي كان عليها كتاب (الحاوي في الطب) للرازي، ورسالته في (المعاد) كانت بناء على طلب من مجد الدولة البويهي والي الرّي، ومقالته في (تدبير الجند والمماليك والعساكر وأرزاقهم وخراج الممالك) كانت بناء على طلب من شمس الدين البويهي والي همدان، وكتاب (البر والإثم) كتبه بدافع التكفير عن خطيئته مع سندس، وهكذا مع باقي المؤلفات: (القانون في الطب) و(الهداية في المنطق والطبيعيات والإلهيات) … الخ.
ومع كل هذا الجهد الذي بذله زيدان في سبيل كتابة ببليوجرافيا خاصة بأعمال وآثار ابن سينا نثرها بين تخوم روايته، تلك الأعمال التي كانت دائما بحاجة إلى تنقيب ورصد، يبدو أنني أنا الآخر كان لا بد لي من بذل الجهد – مستنداً إلى مروية زيدان – لاستكمال هذه الببليوجرافيا بعناوين طالما شكلت عصب النقاشات العلمية وسواها من المواضيع عند الشيخ الرئيس: التأسيس للحكمة المشرقية، كيفية التعامل مع تركة أرسطو، الخلاف حول المعاد الروحي والمعاد الجسماني، الأثر المتبادل بين الصحة النفسية والجسدية، الموقف من السياسة الذي بلغ ذروته في الخلاف الذي نشب بين ابن سينا وأبي الريحان البيروني على خلفية علاقة هذا الأخير بالسلطان محمود الغزنوي.
في النهاية لا أملك إلا أن أحيي يوسف زيدان، وأن ألتمس له العذر في كل ما أثرت من شكوك، فسفينة (عزازيل) التي بناها كانت عملاقة بحق وجانحة على نحو مدمر، ولم يكن من المقدر له ولها -بعد كل تلك العواصف الهوجاء التي عبراها معاً- أن تعود لترسو في مينائه دون أن تلحق الأذى بقواربه الصغيرة، (فردقان) كانت قارباً صغيراً في الميناء، ولولا حكمة الشيخ الرئيس وتنبيهاته الكثيرة لزيدان؛ ربما لم يكن أحد من طاقمها لينجو من هول الارتطام.