[9]جيلبرت سينويه في مواجهة ساركوزي
محمد الماجد
“مالت موازين الرياح
ولم يعد في البحر متَّسع لنا
والبر ذيبُ”
ليلى بلا نار/ محمد علي شمس الدين
بخارى
بخارى
بخارى
غريب أمر هذه الولاية الأوزبكية، فمنذ (قانون) ابن سينا، و(كشّاف) الزمخشري، و(صحيح) البخاري وهي تغلق على نفسها الباب، وكأنها أرملة فقدت أعزّ أبنائها وهي لا تزال في مقتبل العمر، لقد أشعلت القرون من الثالث وحتى الخامس للهجرة بالنوابغ والعبقريات ثم انطفأت، ربما أحست بأن ما فعلته كان كافياً لأن يبقي العالم مستيقظاً إلى ما لا نهاية، ولكنّ بخارى ذاتها نسيت أنها لم تشعل من العالم سوى السقف، أما قاع العالم فكان مشغولاً بشيء آخر: طبق الرز البخاري، وهذا الأخير أعطاها من المجد ما يوازي ذلك الذي أعطاه الكولوسيوم لروما، وتاج محل للهند، والأهرامات لمصر، هذه الأرملة الأوزبكية الشابة والشغوفة، كتبت واحداً من أجمل نصوص المطبخ الآسيوي دون أن تشعر بحجم الخدمة العظيمة التي قدمتها لأعداء الحمية الغذائية، وقد ساهمت بنصها المشبّع بالزيوت هذا في توفير عمل إضافيّ لآلاف الديكة فيما أشاعت الرعب في الحياة الداجنة، هذا النص الذي لم يبدل من سحنته الأوزبكية، وظلت رائحته تجوب زوايا الأرض الأربع، لم يعرف الراحة حتى أصبح تراثاً مشتركاً لكثير من الشعوب، وعلى الرغم من حياته المعمرة والمديدة فهو لا يزال يثير الحسد والغيرة بين معلمي الطبخ الشعبيين، والكثير الكثير من الغبطة والسرور بين الطبقات الكادحة.
أفشنة
أفشنة
أفشنة
قرية صغيرة، قرية ابن سينا الصغيرة، كانت مثل خال مدوّر في رقبة الأرملة، وما إن ولد الشيخ الرئيس حتى انتقل ذلك الخال إلى وجنتها، ولم تكن ساعتها قد عرفت أنها أصبحت في بياض اللبن، وحمرة اللوز، وطلاوة الطلح، حتى سقط ذلك الخال منها على المرآة، فارتعشت رعشة العروس ليلة زفافها، وغصّت أزقة بخارى بعدها بالخطّاب من ملوك، وسلاطين، وأطباء، وطلاب، ولصوص، وغزاة، وقتلة ..!.
سأقف بهذا المديح هنا على حافة أفشنة حتى لا أفسد مقالتي بالمجاز الفائض، وسأضع كركانج، والري، وقزوين، وهمذان، ودرة الأرض أصفهان، وكل المدن التي مر بها الشيخ الرئيس بعد أفشنة وبخارى على سكة أخرى غير سكة المجاز، وهي ذات السكة التي شقها جيلبرت سينويه ليحمل عليها حياة الشيخ الرئيس عابراً معه تخوم المجد ومفازات الروح العظيمة في روايته (ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان)، سينويه توسل بعشرين ورقة تركها أبو عبيد الجوزجاني تلميذ ابن سينا في دُرج الزمن، ليستثمرها الباحث الفرنسي في عمل روائي استعار معماره من فن المقامة العربية، أي أن بنيته للرواية اعتمدت في أساسها على قواعد وتقاليد راسخة في النثر العربي، وبعد كتيبة الملائكة اللاتينية ماركيز، وكويلو، وايزابيل الليندي وآخرين كثر، كنا بحاجة دائماً لمثل هذا البارون الفرنسي سينويه ليعيد تذكيرنا بمراهم التراث وبمأزقنا مع تجاعيد الحداثة التي أكلت وجوهنا، واحدة وثلاثون مقامة نحتها سينويه نحتاً من جبال عائمة في التراث العربي، سمى تلك المنحوتة رواية، ونسبها إلى التاريخ، ثم دسها في أدراج المكتبة العربية بمعونة من المترجم آدم فتحي، هربّاها مثل عشبة خشخاش طالما خصها الشيخ الرئيس بفضائل لم يذكرها أمام أحد إلا رماه بالإلحاد والزندقة.
لم تكن (المقامة) في حقيقة الأمر سوى ذريعة للسرد، حيث جعل سينويه من بديع الزمان الهمذاني، صاحب مقامات الهمذاني، ومن بطله عيسى بن هشام مسودّة شفّافة لمشروعه، تقمص شخصية بديع الزمان وجعل الجوزجاني هو الآخر يتقمص شخصية عيسى ابن هشام، واختلط بذلك الأمر على القارئ لروايته، في من يكون الراوية الحقيقي؟، سينويه أم الجوزجاني؟، خاصة فيما حرص سينويه على اثباته في ذيل كل مقامة من شروح أحياناً كان ينسبها لـــ (الجوزجاني)، وأحياناً لــ (المترجم)، وأخرى لــ (المعرب)، وكأننا أمام بطولة مزدوجة، ولكن يبدو أن هذا ليس مهماً، فما نتصوره خلطاً هنا من سينويه، انما يقع في صلب البنية والحبكة الروائية، وليس تردداً أو ارتباكاً، فجاءت مقاماته خفيفة الظل، مكتفيةً بالإشارة إلى الهمذاني من بعيد، سريعة البديهة، رشيقة القوام، مطرّزة بزنّار من آيات القرآن الكريم، وبالشِّعر، والطرائف الشاردة.
بعد كل هذه المقدمة، ما يهمني من أمر جيلبرت سينويه، أو سمير جيليبر كسّاب، الفرنسي مصري المولد، ذي الأصول اللبنانية، هو شيء أبعد من مجرد الإعجاب بديك فرنسي يجيد أداء الأذان وركوب سلم المقامات الشرقية، فربما مع شخص في مثل مميزاته هذه أمكن لأحدنا أن يحرر مفهوم الفرانكفونية من نطاقه الجيوسياسي ذي الرافعة الاستعمارية، إلى ما يمكن أن أعبر عنه بالفرانكفونية المقلوبة، أو السلبية، في مقابل الفرانكفونية الإيجابية أو التقليدية التي يمثلها كتاب من أمثال ادريس الشرايبي، والطاهر بن جلون، وأمين معلوف وآخرون، والسلبية هنا (منطقية)، بمعنى أنها تمثل النسخة الخفية وغير الرائجة للفرانكفونية من وجهة نظري، ولا ينبغي أن تؤخذ على أنها حكماً أخلاقياً بأي حال من الأحوال، ومقارنةً بالطاهر بن جلون مثلاً، وهو الصورة الفاقعة للفرانكفونية الساركوزية، والمتماهية مع الموقف الفرنسي الرسمي، يمكن أن نلحظ القيمة الفارقة التي سيضيفها سينويه كظهير حقيقي للشرق، فهو دائم المواظبة والدفاع عن الواجب العربي بشكل يثير الإعجاب، روايته (أنا القدس) ستكون مثالاً جيداً لذلك، وكتابه (النسر المصري عبد الناصر) مثال آخر، ومن الممكن إضافة لقاءاته الصحفية والتلفزيونية لتثبيت هذا المثال الذي لن يقف عند هذه الحدود، فمنذ ارتكب سينويه فعل الكتابة في سنّ الأربعين، لم يترك شاردة تاريخية من شوارد الشرق إلا وانقض عليها مثل نسر جائع فانتشلها من عتمة الوهاد إلى فضاءات من السرد المضيء، فكتب عن دلمون، وعن الأندلس، وعن الشرق الأوسط منذ سايكس بيكو وحتى الربيع العربي، موزعاً جهده هذا بين عدة روايات، فيما استأثرت مسقط رأسه مصر بالنصيب الأكبر من قلبه ومن كتاباته.
هل أنا متحمس لسينويه؟
نعم، ولكن حتى صداقته الحميمة مع الجيتار وغناء داليدا لكلماته لم تشفع له عندي حين وصل الأمر إلى النيل من سمعة الشيخ الرئيس، فقد استوقفتني الصورة التي رسمها لابن سينا في روايته هذه كثيراً، فنسبته ابن سينا إلى أم يهودية، أو تلميحه بذلك في الحد الأدنى، وضعني أمام احتمال أن يكون سينويه عضواً في فريق استشراقي لئيم، كلامه عن لسان ابن سينا السليط، وسبابه الفاجر، وتردده على المواخير، وتعاطيه الأفيون، وشخصيته الماجنة التي تصل إلى حد التجديف، عزز لدي من رجاحة هذا الاحتمال وجعلني أضيف إلى صفة (لئيم) وصف (وقح)، وفكرت جدياً في قراءة رواية سينويه (اللوح الأزرق) والتي يحكي فيها عن الأندلس ومقارنة روايته هذه بكتاب المستشرق الهولندي دوزي (تاريخ المسلمين الاسبانيين حتى فتح المرابطين للأندلس 1861) لكي أتأكد بأنها ليست ترجمة أو نسخة أدبية لما قام بها دوزي، وفكرت أيضاً في قراءة رواية سينويه الأخرى (رسول الله) ومقارنتها بكتاب (حياة محمد) للمستشرق الأسكتلندي وليم ميور، وبذلك سأتمكن من قياس نسبة الكراهية في دم سينويه، غير أنني سرعان ما استدركت بأنني أمام رواية ولست أمام خطة لحرب عالمية ثالثة، زيادة على أنني فكرت في كل ذلك مدفوعاً بذاكرتي مع ادوارد سعيد وحديثه عن الاستشراق الكامن والاستشراق السافر، وتذكرت أيضا دفاع سينويه عن القدس وعن عبد الناصر فابتعدت بالفعل مسافة لا بأس بها عن ذلك الوسم الاستشراقي الأسود، بقي فقط أن أجد مبرراً لتلطيخه سمعة الشيخ الرئيس، فوجدت ضالتي في رواية (فردقان) ليوسف زيدان، حيث نافس سينويه في هذا الأمر، كل هذا وأنا أعاني من شحة في الوقت وصعوبة في الوقوع على مصادر حقيقية تدحض ما ألصقه سينويه بالشيخ الرئيس من تُهَم، وكان عليَّ أخيراً أن لا أحرق تلك الصورة الفرانكفونية البراقة التي رسمتها لسينويه في مواجهة ساركوزي، ففضلت أن أضع كل هذه الشكوك في خانة العبث إلى حين.
أنا أفكر بصوت عالي؟
نعم، هذا ما قمت به من أول سطر وحتى الآن، ولا أدري ما إذا كانت هذه صفة جيدة أم لا، فهي من الصفات القليلة التي تعمل بفيزياء العجلة: عزم ذاتي وبلا كوابح، فقد دفعتني هذه الصفة المفرطة في طوباويتها إلى أن أبدأ مقالتي هذه بالمجاز، ثم انتبهت الى أنني أمام مقالة أتناول فيها رواية عن الشيخ الرئيس وليس استهلالاً طلليّاً، فاستغنيت عن آلة المجاز مزمعاً الحديث عن الرواية بمقدمة عن مفهوم المقامة لأتفاجأ بأفكار تتعلق بالفرانكفونية والاستشراق تعتصر تفكيري، وها أنا ذا أعود مرة أخرى أكثر تصميماً على إكمال الحديث داعياً الله أن تكف آلة الفيزياء التي تسكنني عن الدوران.
ومع عودتي سأبدأ بأبيات الشاعر محمد علي شمس الدين المثبتة في أعلى هذه المقالة، والتي أنصح القارئ بإعادة قراءتها لأنني لن أجد أفضل منها للتعبير عن حالة التشرد والمطاردة التي عاشها ابن سينا طيلة حياته القصيرة نسبياً (57 سنة)، وإذا كان لي أن أذكر صورة أخرى تصف هذه الحالة فسأعود مرة أخرى لمسودة سينويه: مقامات بديع الزمان، ولعيسى بن هشام وحديثه في (المقامة الفزارية) “وأنا أهِمُّ بالوطن، فلا الليل يثنيني بوعيده، ولا البعد يلويني ببيده، فظللت أخبط ورق النهار بعصا التسيار، وأخوض بطن الليل بحوافر الخيل… أسيح سيحاً، ولا سانح إلا السبع، ولا بارح إلا الضبع”، وقد برع سينويه من جهته في اثبات هذه الحالة بإضبارة من الورق السميك، ولم تكن هذه هي الإضبارة الوحيدة، فالكثير من نزوات الجسد والهواجس الليلية لدى ابن سينا كانت ستضيف إلى هذا الورق السميك ورقاً شفافاً يكاد يتقصف تحت يد القارىء وأنفاس ابن سينا اللاهثة، وللتعبير عنه، سأستعين بـــ تلستوي هذه المرة:
“لا بد من امرأة، الرغبة الحسية لا تترك لي لحظة سلام”/المثقفون-بول جونسون عن يوميات تولستوي
وأيضاً:
“شهوة رهيبة لدرجة المرض الجسماني”/نفس المصدر
وسأكرر، لن أجد أغزر ماءً ولا أشدّ شبقاً من هاتين الجملتين للتعبير عن حرص ابن سينا الطبيب على تناول وصفات ايروس، ذلك أن راهباً مثل تلستوي هو الوحيد الذي سيجعل من مقارنتي له مع ابن سينا مقارنة موضوعية.
هل تنطوي الرواية على أضابير وأوراق أخرى؟
نعم، أوراق برائحة قريبة من رائحة الحريق، وأخرى مربوطة بذيل عاصفة هوجاء، وأخرى لها عزيف يشبه عزيف الزلازل، وأخيراً وليس آخراً، أوراق تغص بصور لعجول مجذومة وعربات معبئة بالأوبئة تمشي من أمام الشيخ الرئيس، لا مهمة لها سوى فتح مغاليق الطب على طرق وعلاجات لم يعرفها العالم من قبل، كل هذا وغيره سنلاحظه وعلى التوالي في مرويات سينويه عن حريق مكتبة بخارى الملكية، وعاصفة الدشت الكبير، وزلزال الري، والكوليرا التي أعقبت ذلك الزلزال، وكذلك في غيرها من المعارك التي خاضها الشيخ الرئيس مع القدر!.
تبقى الإضبارة الأهم، تلك المحشوة بأوراق الحكمة، والطب، وفهارس الفلك، وغيرها من المواضيع، الإضبارة التي ستصف علم الشيخ الرئيس وبراعته في طرق الأبواب المختلفة للمعرفة، اللاهوتية منها والدنيوية، بما في ذلك تلك الرسائل العلمية التي دارت بينه وبين أبي الريحان البيروني، وسنفاجئ كيف كان ابن سينا يسيّج كتباته هذه بالقصب والأحبار، ويحرس سماءها بدخان الأفيون، وكأنها الإضبارة المقدسة والوحيدة في حياته، فلا المطاردة الدؤوبة له من السلطان محمود الغزنوي، ولا وصفات ايروس، ولا الزلازل، ولا الأوبئة وعجولها المجذومة، كانت لتشغله عن حقيقة ما صُمِّمَ لأجله: العلم، وليس من هو أحق مني، وحتى من سينويه، بحلّ الشمع عن فم هذه الإضبارة من أبي عبيد الجوزجاني “كانت قدرة معلمي على تعبئة طاقته الإبداعية حسب رغبته مصدراً دائماً لإعجابي وحيرتي الكبيرتين، ها هو منفي مرة أخرى، في طريقه إلى المجهول، معدم أو يكاد في هذا الجبل حيث يخترق البرد العظم، ومع ذلك يجد القوة اللازمة لإخلاء ذهنه من أي شاغل والانكباب على هدف واحد: إتمام كتاب القانون”.