مِلْحان القديح.. كيف غيّرت الرياضة دلالة “الإهانة” إلى مصدر “مفاخرة”..؟! ظاهرة لسانية اجتماعية أحالت تعبير "عيال مضر" إلى النسيان
القطيف: عبدالمحسن آل عبيد
إلى ما قبل 40 سنة أو أقلّ؛ كانت كلمة “املح” كافيةً لإشعال عِراك؛ لو تفوّه بها أحدٌ قاصداً أحداً من سكان بلدة القديح. كانت دلالة “إغاظة”. أما الآن؛ فهي دلالة فخر لكل قديحي..!
“أملح”، في لهجة القطيف القديمة لم تكن تشير إلى معنى من معاني “المَلَاحة” والجمال، بل هي تسمية للّون الرمادي. ويُوصَف بها ذوو البشرة المتأثرة بحرارة الشمس وعرق العمل وتراب الكدح.
إنه ـ ببساطة ـ وصفٌ للفلاحين والصيّادين الذين لا وقت عندهم للأناقة والهندام. وبالتالي؛ فإن نعتَ أحدٍ سبباً في فهم إهانة غير مقبولة، ومن هنا “كانت” الكلمة مغيظة، ولو سمعها منك قديحيٌّ؛ لردّها إليك صاعين بصاع..!
الآن؛ لو سمعها منك؛ فسوف يتورّد وجهه فخراً وأبّهةً. “الأملح” و “الملحان” فرسانٌ جلبوا الانتصار تلو الانتصار إلى بلدتهم الريفية. لم تعد كلمة “الأملح” تعني “الأسمر” ذا البشر الملطّخة برذاذ عمل النخيل والتراب.. إنها تعني “الجميل”.. الجميل فحسب..!
رئيس مجلس إدارة النادي الدكتور سعيد الجارودي
ماذا يعني اسم الأملح..؟
وجّهنا هذا السؤال لرئيس مجلس إدارة نادي مضر، الدكتور سعيد الجارودي بنفسه، الذي يجد في لقب “الأملح” رنيناً. فأجاب “حين أسمع كلمة “أملح” أشعر بالنضال وإثبات الذات ومواصلة النجاح.. أطرب للكلمة.. لا أنظر إلى ماضي الكلمة بل إلى مستقبلها.. وتأثيرها في الناس.. مجرد أن تقول “أملح”.. فإنك تكون تحت تأثير رمزي يحرك الناس من الداخل”.
وهذا ما يحدث مع جماهير النادي في المحافل الرياضية.. وكم ضجّت الصالات بهتاف: أملحْ وبرتقالي.. غالي عليَّ غالي..!
همزٌ ولمز..!
القصة ذات جذور أبعد مما تبدو عليه. وهذا ما يُشير إليه سلمان منصور العنكي الذي قال إن كلمة “أملح” مرّت بمراحل .. ففي البداية كان “تداولها همزاً ولمزاً”.
العنكي يلمّح إلى العلاقة القديمة بين القريتين الجارتين؛ القديح والعوامية. بالتأكيد كانت علاقة طِيب ومودّة وسلامٍ واحترام. لكن قد تنجم مشاحنات صغيرة بين بعض مراهقي القريتين في أي موقف احتكاك عابر. هذه الاحتكاكات ولّدت تنابزاً بين الطرفين. القديحيون يصفون نظراءهم العواميين بـ “المقرمزين”، في إشارة إلى كُحل “القرمز” الذي كان يُستخدم كعلاج في العوامية.
وبالمقابل؛ يرد العواميون على القديحيين بـ “الملحان” نبزاً للفلاح الذي تتأثر بشرته بالعمل الشاق.
يقول العنكي “أخذت الكلمتان تتداولان بين الطرفين وربما في حالات أوقعتا اشتباكاً”. يضيف “ثم استخدمت الكلمتان ـ في مرحلة لاحقة ـ للممازحة والممالحة بين الطيبين من أبناء البلدتين”.
ويبدو أن كلمة “الأملح” ـ التي تعني اللون الرماديّ ـ اندمجت في لا وعي الرياضيين في القديح لاحقاً. يقول العنكي “ثم قدمت إدارة نادي “مضر” شعارها إلى الرئاسة العامة لرعاية الشباب (وزارة الرياضة حالياً)؛ فتمّ اعتماده، وارتدى رياضيو البلدة لباسهم الرياضي المكون من ثلاثة ألوان: البرتقالي، الأبيض، الرمادي.. واللون الأخير هو “الأملح”.
يضيف “من هنا أخذ لقب “الأملح” يتكرّس، وواضح أن أبناء البلدة قبلوه”، ومع الزمن “زاد حب الناس اللون والتسمية، خاصة كلما حقق النادي إنجازاً رياضياً، وأخذ يصعد الى القمة بحصده الانجازات والميداليات الرياضية على مستوى المنطقة والمملكة وحتى عالمياً ونال اللقب الجديد شرفاً وارتفع شأنه حين أصبح مفخرة قديحية مضراوية بفعل أبطاله”.
عيال مضر
يحمل نادي مضر العديد من الألقاب، ولكلّ لقب قصته، كما هو حال أندية محافظة القطيف، نادي الخليج السيهاتي يحمل لقب “الدانة ” و”الاكاديمية ” ونادي الصفا لديه لقب “الشرياص الصفواني”.
نادي مضر الذي سُجّل رسمياً عام 1393هـ؛ يُطلق عليه لقب “العالمي”، لكونه أول فريق سعودي شارك في كأس العالم للأندية لكرة اليد. ويلقّب ـ أيضاً ـ بـ “البرتقالي” نسبة إلى أحد ألوان قميص الفريق. ويُلقّب فريق اليد فيه تحديداً بـ “الكواسر” كناية عن صلابة الفريق وقوته وبطولاته المتعاقبة..
وكذلك يُلقّب بـ “المضراوي” نسبة إلى “مضر”، وهو اسمٌ لرمز قديم في البلدة. وهذه قصة أخرى يشير إليها العنكي ـ أيضاً ـ الذي يفصّل شارحاً أن اسم مضر في القديح ذو رمزية شعبية شديدة التأثير في الناس.. فأبناء البلدة يعتبرون أنفسهم “عيال مضر”، وفي الزمن القديم كانوا يتنادون في الاستغاثة فيما بينهم بقولهم “يَعْيال مَضَرْ يا ارْفاق”، وتعني “أنقذونا يا رفاقنا”.. أي يا أهلنا. والطريف أن أبناء الجارة العوامية لديهم نداء مماثل هو “يَعْيال عوامْ يا ارْفاقْ”. ومثل هذا التنادي يُثير حمية أبناء البلدة بسهولة، فيفزعون لإطفاء الحريق أو إنقاذ الغريق، أو صدّ المعتدي من البدو الغزاة، وما شابه.
وتعبير “عيال مضر” ماضية في الاختفاء من ألسنة الناس.
في النهاية يرى سلمان العنكي أن “المواقف هي ما يرفع قيمة الاسم ويصنعه وليس العكس”، مضيفاً “لأني ابن القديح؛ فإنني أفخر وأعتز بلقب “الأملح”، بعيداً عن منشئه ومعناه وما يُقصد منه.. كل هذا لا يعنيني بشيء؛ طالما أن سماعه يتزامن مع إضافة بطولة جديدة لبلدي”.
حلو المعشر
إذا كان سلمان العنكي من جيل ما بعد الستين؛ فإن جيل الأربعينيات في البلدة لديهم إفادة أخرى.. محمد الحميدي، وهو من المشتغلين بالأدب والنقد”؛ أرجع تسمية الأملح إلى المجتمع نفسه. يقول “دائماً يُطلق على ملاحة وليس المقصود اللون الأملح، وانما المقصود حلو المعشر ومن السعادة والأنس بمجالسة من تحب”.
يضيف “ونحن نستخدمه دائماً، وأصبح علامة مميزة لأبناء بلدة القديح وماركة مسجلة، ومع تحقيق أي بطولة نسعد بها ونسعد بتسمية الأملح”. ويقول أيضاً “لكل نادٍ ـ على مستوى القطيف ـ تسميه خاصة، والفكرة هي أن الأملح المضراوي وشعاره تحولا إلى مفخرة لي ولغيري ودون حساسية، ونتقبل هذا وهي أن الكلمة توصيف فقط لا أكثر”.
إلى شعاره
حسين الدخيل لديه إحساسٌ عاطفيٌّ مشابه، فهو يرى أن الاسم “أصبح مفخرة لكل قديحي ويرتاح لسماع هذا اللقب وخصوصا في تحقيق البطولات والفوز والانتصارات”.
يضيف “جاء هذا الاسم نسبة إلى شعار نادي مضر الذي يتكون من اللون البرتقالي والاملح”. ويقول أيضاً “في السنوات الأخيرة طغى اللون الأملح على البرتقالي، فأصبح اللون الأملح هو المميز والواضح والأكثر. فعُرف في الهتافات والتشجيع”.