[صفوى] رحلت ابتسام المرهون.. فغابت ابتسامة «الخامسة» معلمة قدمت «حنان الأم» فأحبتها الطالبات وأمهاتهن والمعلمات

صفوى: أمل سعيد

«أبله ابتسام أني أحبش وااااااااايد»، عبارة مفرطة في العفوية، صدرت من فم طفلة في مقطع فيديو أعدته مجموعة من الأمهات لبناتهن، نهاية عام 2019. وهي السنة الأولى التي حالت جائحة كورونا دون إكمال السنة الدراسية بشكل طبيعي، فكانت المعلمة ابتسام حسن صالح المرهون خير سند لطالباتها وأمهاتهن في الاختبار الأول والجديد، للتعامل مع التقنية الحديثة في التدريس، ومنصة «مدرستي».

في الفيديو ترسل الطالبات جملة واحد لمعلمتهن: «أبله ابتسام أني أحبش وااااااااايد» وقُبلة. ما إن وصل المقطع إلى المعلمة؛ حتى بكت فرحاً.

ابتسام المرهون التي أبكتها طالباتها قبل عامين امتناناً ومحبة؛ ها هي اليوم تُبكيهن وأمهاتهن حزناً على رحيلها. ففي فجر أول من أمس (الجمعة)،توفيت بعد نقلها إلى المستشفى، إثر متاعب صحية مفاجئة، ومازالت تنعى وسائل التواصل الاجتماعي الفقيدة، وتبكيها العيون والكلمات.

رسالة وجهتها الطالبة آية علي آل فريد إلى معلمتها الراحلة ابتسام المرهون.

زمالة دراسة وعمل

لم تسعفها الكلمات وهي تتحدث عن رفيقة دربها. نجاح آل قريش لا تكاد تحكي حتى تحرق مقلتيها دموعاً حارة، والآه تبتر الكلمات وتحيلها إلى ندب وأنين. تحاول جاهدة أن تصف لـ«صُبرة» صفات صديقتها، فإذا بها تقع في فخ الذكريات، التي تلهبها حرارة الفقد «كانت ابتسام جليسة لا تُمل. كلما ضاقت بي الدنيا؛ طرقت بابها. ما افترقنا منذ أكثر من 20 سنة. كريمة سخية نفس. ما إن تطأ قدميك عتبة بيتها؛ حتى تغمرك بلطفها وكرمها، حتى يخيل لك أنها تود أن تضيّفك الدنيا كلها».

رمضان والحسين

تضيف آل قريش «بسبب الاحترازات الصحية؛ قلّ تزاورنا وطلعاتنا معاً، فقد كانت تخاف أشد الخوف على والديها، ودائماً ما كانت تعتذر لنا إن لُمناها بقولها «أخاف على أمي وأبويي. أخاف يصير ليهم شي ويخلوني لوحدي». هجرت الناس لشدة حبها لأبويها، لم تكن الزيارات الداخلية هي فقط ما تخلت عنه ابتسام، ولكن هناك زيارات تركتها مُجبرة، وكانت تبكي بحرقة عليها، فقد اعتادت ابتسام أن تقضي شهر رمضان من كل عام في ضيافة الإمام الحسين (عليه السلام)، لكنها وبسبب تداعيات كورونا لم تذهب في العامين الفائتين، لذا؛ فكلما حل شهر رمضان؛ تتغير أحوالها وتبكي، لعدم قدرتها الوصول إلى كربلاء».

بنات ابتسام

تسترسل آل قريش في الحديث عن صديقتها الراحلة «حتى الطالبات اللاتي تدرسهن ابتسام غير، وأي معلمة ستمسك فصل ابتسام؛ ستدرك الفارق الكبير بينه وبين بقية الفصول. رغم أن بعض الأمهات يتضايقن في بداية الأمر من كثرة الواجبات التي تكلف بها الطالبات. ولكن بعد فترة يشعرن بالفارق في أداء بناتهن، وما يلبثن أن يصبحن محبات لابتسام وطريقتها».

الفصل النموذج

«عطاء لا محدود»، بهذه الجملة استهلت المرشدة الطلابية نورية الهاشم، حديثها عن “اختها” الراحلة. تكمل «سواءً أكان ذلك العطاء مادياً أو علمياً أو غيره، فالفصل الذي تمسكه ابتسام؛ لا نعاني فيه من مشاكل، بل يُعد فصلها النموذج؛ سلوكاً وتحصيلاً علمياً».

تضيف «يختلف العطاء من شخص إلى آخر، لكن عطاء ابتسام لا تُخطؤه العيون، فعلى مستوى التدريس؛ أبدعت مع الصف الثالث، تتحدث العربية الفصحى مع الطالبات، وتحببهن فيها. فصلها الوحيد الذي يستخدم المعجم اللغوي، حتى المشرفات كنّ يلاحظن الفرق».

أما في جانب العطاء المادي فتضيف نورية «حدث كثيراً أن بذلت وأعطت ما يجعلك تؤمن بضآلة الدنيا في عينيها، وأنها كانت ترجو الله فيما تفعل، فلا تتحدث عما تفعل، ولولا أنني بحكم طبيعة عملي على اتصال دائم في أمهات الطالبات؛ لما عرفت».

سردت الهاشم قصصاً للمرحومة، تدل على طيبها وسخاء نفسها، ومنها «كانت المعلمات يتشاركن في دفع مبلغ نخرجه لكفالة يتيم. المبلغ 2400 ريال. وكانت ابتسام تشترك معنا فيه، ثم تعطيني 2400 ريال لكفالة يتيم بمفردها، وترفض أن يعلم أحد بذلك. ليس هذا فقط؛ بل مع بداية أزمة كورونا واحتياج الكثير من الطالبات إلى أجهزة حاسب؛ اضطررت إلى التواصل مع الجمعية الخيرية، ولجنة التفوق في صفوى، كي نوفر أجهزة للطالبات اللاتي لا تستطيع أسرهن توفيرها، لكني تفاجأت بأنها اشترت أجهزة على حسابها الخاص لكل الطالبات المحتاجات في فصلها، ولم تخبر أحداً، وما علمت إلا من أهالي الطالبات، حين تواصلي معهم».

تضيف «المرحومة كانت تتكفل في يتيمات يدرسن في المدرسة، من دون أن تخبر أحداً. كانت تجلب المال وتقول: هذه كفالة يتيم للطالبات، أعطوهن المبلغ من دون ذكر الاسم. كانت تشتري لكل طالبة محتاجة عباءة أو مستلزمات القرطاسية».

تتابع بالقول «كانت إذا حصلت مبادرة لجمع مبلغ ليتيمة أو فقيرة، تكون أول المبادرات، بل تزيد المبلغ إلى ثلاثة أضعاف. ففي السنة الماضية؛ دخلت مكتبي وبيدها مبلغ، وقالت «وزعيه على طالبات المدرسة المحتاجات». بهدوء وصمت كانت تفعل ذلك، تعمل بسرعة وهدوء؛ وكأنها كانت تعلم أن الرحلة قصيرة».

تشير الهاشم إلى أن الراحلة كانت تتبع مع طالباتها أسلوب المربي «ليس فقط تدريس، وإنما التربية قبل التدريس. دائماً اسمها مرتبط بعبارة «عطاء لا محدود». لا أتذكر يوماً أنها اختلفت مع أحد، أو ضايقت أحداً. كانت تغضي عن السيئة، وتتغافل عن الزلات».

ابتسام – من وجهة نظر نورية – «مثال للإنسان المُخلص حد النخاع في الشرح والتعليم، لدرجة أنها كانت تُصر على أخذ طالبات صعوبات التعلم. ومن عمل في التعليم؛ يعرف ما أقصد بطالبات صعوبات التعلم، فأغلب المعلمات يتضايقن من التعامل معهن. ومع ذلك؛ كانت ابتسام تدرسهن حصصاً إضافية في بيتها، وتظل تحضر مع طالباتها حتى آخر يوم في السنة الدراسية. تشرح وتوضح ما استصعب عليهن».

رحلة الطالبات وأمهاتهن

بعد انتهاء كل سنة دراسية؛ ترتب ابتسام المرهون لنزهة خاصة تجمعها مع طالباتها وأمهاتهن. تنقل الهاشم عن لسانها «أحب أن ألتقي معهن قبل أن يغادروني للصف التالي، حتى أترك في نفوسهن ذكرى طيبة عني، فربما أغضبت أو قسوت أو آلمت طالبة يوماً ولم أنتبه».

وترفض أن تحضر أي معلمة من زميلاتها إلى المكان، تقول رفيقتها أميرة الداوود «كم ترجيتها أن نحضر معهن، كانت تقول «هذا اليوم لبناتي وأمهاتهن، ولا أريد أن تشعر أي واحدة بغير ذلك، ووجودكن سيشعرهن أنهن ضيوف، وهذا ما لا أريد».

تصفها في ختام حديثها بالقول «صاحبة قلب رحيم، متعلق في آل البيت (عليهم السلام) حد النخاع. خسارة ابتسام ليس لأهلها فقط، ولا لصديقاتها ولا لمدرستها، بل لصفوى كلها. فرحم الله تلك الروح السعيدة، وألحقها الله مع من كانت متعلقة به وتبكيه. حشرك الله في ركاب الحسين وأنصاره. حشرك ربي في زمرتهم».

أم ابنتي

أميرة الداوود صديقة الراحلة، تحكي كيف بدأت علاقتهما «علاقتي معها تتجاوز الزمالة والصداقة. بدأت بعدما صدر قرار نقلنا إلى المدرسة الابتدائية الخامسة معاً. حصلت على رقمها، واتصلت بها كي نذهب في اليوم التالي معاً. وفعلاً دخلنا المدرسة معاً. ومنذ ذلك اليوم؛ احتلت ابتسام مكاناً أثيراً في حياتي. ابتسام هي أختي».

تسهب أميرة في وصف علاقتها مع المرحومة وعائلتها «ابتسام هي التي رافقت ابنتي لإجراء تحاليل الزواج. هي من اختارت معها فستان الزفاف، هي اللي تروح وتجي لإنهاء ترتيبات الزواج. كانت أماً لابنتي».

بل أماً للجميع

كانت ابتسام المرهون تبذل من وقتها الكثير، لمساعدة من حولها. لم ترد أحداً قصدها في شيء، تقول آل داوود «كانت إذا احتاجت زميلة منها شيئاً لبّتها، إلى حد أنها لا تمانع إن قصدتها زميلة بأن تمسك لها أولادها، وتفعل ذلك بكل حب».

عند قبر أمي

هنا؛ تأتي المفارقة أو الصدفة التي تحمل في تفاصيلها ألف معنى ومعنى عند الداوود. تلقت خبر وفاة «اختها» ابتسام المرهون قبل الجميع. تروي «بعد فجر الجمعة بقليل؛ عند الخامسة تقريباً، كنت جالسة عند قبر أمي، برفقة زوجي. رأيت رجالاً يجهزون قبراً، وسمعتهم يقولون إن المتوفية ابتسام المرهون، قلت لزوجي: كثيرات في بيت المرهون يحملن اسم ابتسام، لكن الهواء يحمل اسم شمسة إلى أذني، ما لبثت أن سمعت جملة أخرى أنهم ينتظرون أخوها يأتي من الرياض..! هل يعقل أن هناك من تحمل الاسمين معاً غير رفيقتي؟ غير أختي؟ وهل كل الأخوة في الرياض؟ بدأ التشويش في ذهني، وشعرت أن هناك خطأ ما، لم أتمالك نفسي، ولم أعرف ما أصنع، ووجدتني أتصل: نجاح تعالي إليّ عند قبر أمي، أني تعبانة. ولم تُطل، وصلت نجاح، أشرت إلى القبر، نظرت إليّ مستفسرة، فأخبرتها أن القبر الجديد الذي يجهز بجانب قبر أمي هو قبر صديقتنا، قبر التي لا نأنس إلا برفقتها، قبر الغالية ابتسام».

أمهات الطالبات

كما كانت علاقة المرحومة بزميلاتها «جميلة»، كانت علاقتها بأمهات طالباتها «رائعة»، تصفها أفراح المير (أم طالبة) «ليس من كلمة تفيها حقها، العمل الجاد مقرون بالطيبة والخلق الحسن. لا تفرق بين طالبة وأخرى، المعاملة نفسها مع المتفوقة والأقل، وحتى مع صعوبات التعلم، هي هي لا تتغير، فبوصلتها الوحيدة مصلحة الطالبات، وتبذل في ذلك ما استطاعت من وقت وجهد، لن نجد معلمة كابتسام، ولا أختاً مثلها. معطاءة وربما قليل في حقها أن نصفها بهذه الصفة».

غابت ابتسامة «الخامسة»

من أفراح المير إلى سوسن الهاشم، الكلام هو الكلام، مشحون بالحب والامتنان والعرفان والفقد. تكمل الهاشم ما بدأته المير «علاقة ابتسام بطالباتها ليس تقليدية تنتهي بانتهاء الحصة، أو بخروج الطالبة من مبنى المدرسة. لكنها علاقة احتواء. ابتسام تعامل الطالبات بقلب أم.. تحرص وتبذل، تقسو وتحنو لصالح بناتها».

تضيف «لم أستطع حتى هذه اللحظة أن أخبر ابنتي بنبأ وفاة معلمتها، لأنني أعرف مقدار حبها لها، رغم أنها كانت تدرسها في الصف الثالث، واليوم هي في الخامس، إلا أنها مازالت تحمل لها نفس الحب، وما زلنا لغاية اليوم الذي سبق وفاتها نتزاور ونتحادث بالهاتف وعبر وسائل التواصل. وهذا ليس مستغرباً، فمن يعرف ابتسام؛ يُدرك أنها لا تنسى أحداً. ومن يعرفها لا يملك إلا أن يحبها، صغيراً كان أم كبيراً، وها قد غابت ابتسامة الخامسة (المدرسة التي كانت تدرس فيها) برحيلها».

‫4 تعليقات

  1. رحم الله الفقيدة وحشرها مع نبيها وأئمتها السادة النجباء وربط على قلوب والديها واهليها بالصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون

  2. حبيبتي بسمة كنيتها في حوالي إلى جنة الخلد يا حبيبتي بسمة لست أنا من فقدتكِ ولا منسوبات الخامسة بل صفوى فقدت بسمة الخامسة💔😭فقدكانت تسعى لأتخطى فقد أمي وأبي وزوجي وأبن أخي فمن يساعدني لأتخطى فقد حبيبتي بسمة الخامسة 💔رحمك الله يا فقيدتي

  3. ألف رحمة ونور على روحها الطاهرة
    والله يربط على قلب أهلها وفاقديها ويعظم أجرهم ويلهمهم الصبر والسلوان

  4. (إنا لله وإنا إليه راجعون) صب الله عليها شآبيب الرحمة والرضوان واسكنها فسيح جناته مع النبي محمد وآله الأطهار صلوات الله عليهم.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×