بصمةٌ أنيقة وسط الزّحام
ليلى الزاهر
يستهويني الصباح وأعشق نداءه الجميل فإصراره على النور تكليفٌ لنا بالنهوض.
في كل صباح أشعر بأنني مثل المقاتل الشجاع الذي تُسعده نشوة الانتصار لأنه تغلّب على الوقت وهزم ساعاته القليلة ببناء ممالك شاهقة في أربع وعشرين ساعة.
حينما أضعُ مفتاح الباب لأخرج من منزلي متوجهة لعملي، أعرف بأنّني سوف أفتح آلاف الأبواب، فأنا أمسك بألف حلم بين يديّ، وأجْلدُ نفسي رغبةَ الوصولِ .
فالصباح يرمقني بحبّ وهو المعاش، وفوقي السبع الشداد تحرسني، والسراج الوهّاج يرشدني. فأشبعوا الصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ بأحلامكم.
كلّ يوم تبدأ خطواتي الأولى لدخولي مقرّ عملي، حيث الساحة المدرسية المكتظة بالطالبات اللاتي تتناثر صورهن الجميلة هنا وهناك فهناك طالبة ذكية الجنان، متوقدة الذهن، صادقة الطويّة، وهناك الطالبة المفرطة في تقديرها لقوة العلم المنطقي.
وهناك، وهناك… .
وتعددت أنواع طالباتي، والمسمّى واحد.
طالبة علم تحارب الزمن وتجاهده لتسوس العالم وتقفز يوما ما لأعلى قممه، يهلل لها النّاس، ويُكبّر لها أبناء جلدتها.
أعرف أنني أضفت لمهنتي عملًا جديدا يُشابه عمل المحلل النفسي أو الاجتماعي، إلا أنني سعيدة جدا بعملي كمعلّمة حتى وأن شهد الشاعر إبراهيم طوقان بأن المعلم لايعيش طويلا.
أقفُ بجانب الطالبات صباحا في الإذاعة المدرسية استجابة لنداء الشجاعة الأدبية وصقلا لذلك القلب المخفي ليصول ويجول نازعًا أردية الخجل، وبعث القوة المستدامة لتلازمها سنوات طوال.
عندما تكون معلمًا، تعيش جميع الفصول، وتعشق جميع الزهور، وتصارع قسوة المصاب مع غيرك، وتفرح حتى وإن كنت بعيدا عن دائرة الفرح. وخير البدايات الحصة الأولى، كم هي جميلة دانية تلك الطالبة التي تغالب نوبة النُّعاس لتظل متقذة ذهنيا مع معلمتها لايفوتها شيء من الدروس. وبعد دقائق زمنية سوف أسمع طرق باب الفصل هي ذاتها ابنتي غدير التي تتأخر كلّ يوم وتحمل بيدها العذر ذاته، تفضلي ُبنيتي، خذي مكانك بين زميلاتك.
ينفي المعلم المخلص مسمى الطالب الكسول من جميع قواميسه بل يحاول أن يبعث رسائل الأمل لذلك العصفور الصغير ليصبح يوما ما نسرًا قويّا .
فإخفاق طالبتي لحظة اغتيالي ؛ لذلك أسعى جاهدة لإعداد طالباتي بجميع الإمكانيات والطاقات لتأهيلهن للجامعة خاصة ونحن في مرحلة الثانوية النهائية.
أُجلسهن حولي مفترشات الطاولة المستديرة ثم مانلبث أن نهرع للسبورة حتى نحلل، ونشرح ونفهم الدروس جيدا.
وبعد انتهاء الدروس نتفقّد الجدول المدرسي للحصص ونبحث عن معلمة غائبة لنرسم معا أجمل أنشطة لاستغلال حصتها لكنني اليوم قررتُ في حصة الفراغ الاحتفال بحدث مهم جدا وهو إحياء ميلاد طالبتي مريم، على مايبدو أن اليتم أخذ منها مأخذا عظيما.
فأردت التخفيف عنها وبعث بريق الجمال في محياها الذي بدأ يخبو ولن أعطيه فرصة لذلك.
إنّ حبّي لمريم كان استجابة لنداء قلبي المتكرر الذي وجد نفسه مغرما بهذه الفتاة اليتيمة أحببتها وأحبتني كثيرا، لذلك كان يتحتم علي كمعلمة أن أغرس الحب في ثنايا قلوبهن الصغيرة ؛فالمعلم الذي يفقد حبّ طلابه يصبح رصيده صفرا وخبرته تتطاير مثل الدخان.
فقدتْ مريم أسرتها على أثر حريق نشب في منزلهم وبإرادة الله تعالى كانت مريم في منزل جدتها في تلك الليلة.
لن أصف لكم مشاعر مريم وهي طفلة تحيا دون عائلة منذ كانت في المرحلة المتوسطة لا أعلم كيف اجتمعتْ قطعٌ متجاورات من الحب والحنان في قلبي لهذه الطفلة الجميلة معشوقتي الصغيرة التي كبرت مابين يديّ ويدّ جدتها.
أصبحت مريم مثل ابنتي وأدخلتها منزل أحببتها حبّا لايوصف كنت أستذكر معها دروسها وتحلّ واجباتها برفقتي لا أعلم أنني فرقت بين أولادي وبينها في المعاملة.
شعرتُ أنّ مريم قطعة مني وأنني أمها التي لم تنجبها، لاتكاد تفارقني إلا حين نومها في أحضان جدتها وأصبحت أختا لبناتي ولأولادي، وكبرت مريم، ارتسمت عليها ملامح الأنوثة فغدت فاتنة الجمال مما جعلها مهوى أفئدة قلوب الأمهات فتوافد على خطبتها الكثير من الشباب.
وكم كانت فرحتي عندما اختارت زوجًا مناسبا يساعدها على الخوض في غمار تقلبات الحياة
سوف أغلق صفحة مريم الآن وأتابع تسجيل خطواتي الصباحية الجميلة معكم لأنني بلاشك سوف أزور هذه الكلمات يوما ما لأطمئن على المعلمة الإنسانة بداخلي كما وصفتني ابنتي المتفوقة دلال، أتفقدها اليوم لكنني لم أرها
ربما كانت إحدى نوبات فقر الدم المنجلي أقعدتها عن الحضور للمدرسة لتأتي اليوم التالي فتخبرني بأنها تستطيع أن تُنمّق معلوماتها وتهذبها عندما تغيب يوما دراسيا كاملا دون حاجتها لأحد ؛ فهي في صداقة علمية مفتوحة للاطلاع، صداقة فكرية جميلة تخصب ثنايا عقلها، وترفع مستوى إدراكها العلمي يوما بعد يوم.
فما أجمل أن يكون الإنسان معلّم نفسه، يُملي عليها إجابات منطقية ويستحضر البراهين المنقوعة بماء التعليل.
للفسحة وقتها الجميل أرتشفُ فيها قهوتي وأتصفّحُ بعض المقالات الإلكترونية وأناقش زميلتي سعاد في بعضها، أسعدُ بتلك الأوقات التي تجمعني بسعاد لأنها موسوعة فكريّة ضخمة. وتظلّ الشخصية المُلْهِمة لي في المدرسة تُتقن الأداء المهني بجدارة.
حقيقة وأنا أكتب هذه الكلمات ظهرت أمام عيني ( آن سوليفان )المعلمة المُلْهِمة التي أصرّت على تعليم (هيلين كيلير )
وعند الحديث عنها لا أشكُّ بمدى العناء الذي يتطلبه تعليم طالبة فقدت جميع حواس التلقّي والتّعلُّم كيف أخذت ( آن ) بيديها إلى ساحة العلم وعلمتها النطق والكلام فأحسنت القراءة بطريقة برايل. لقد ذللت سبل التواصل مع تلك الفتاة الخرساء العمياء والبكماء وخرجت هيلين أستاذة جامعية، ألّفت العديد من الكتب وأتقنت عددا من اللغات وحاضرت بلغات مختلفة.
هذا هو الشخص المُلْهم حقّا، حديثه الجاذب يداعب المشاعر بإيقاع موسيقي راقٍ يصل للقلوب.
وفي أثناء الفسحة مازالت الطالبات يتوافدن إلى مكتبي، خاصة بعد أداء الاختبار اليومي وشغفهن بحب العلم يصحب خطواتهن للسؤال عن درجاتهن، فعلا أنا محظوظة بهذه الثلة النّجيبة من الطالبات
تقدمت دانية نحوي قائلة:
هل من الممكن أن أرشّح نفسي لجائزة نوبل للسلام ؟ قلت لها: بلا شك تستطيعين فأصغر الحاصلين على جائزة نوبل هي الفتاة الباكستانية ملالا يوسف زي وهي في سن السابعة عشر ربيعًا الناشطة في حقوق الإنسان، التي نددّت بحق الفتيات في التعليم.
فربما يحركك الطموح عزيزتي بڤولت عجيب يخلق في أعماقك القوة فيجعلك تقفزين قفزة بمليون دولار.
قالت لي والفرحة ساطعة من محياها:
بحق أنت أفضل معلمة رأتها عيناي على وجه الإطلاق.
لم يسعني إلا أن أبادرها الحب، وأشدُّ على يديها لأقول لها:
( هل تعلمين لماذا أتفوق عليك علمًا ومعرفة ؟ لأنني ولدتُ قبلك،هذا كل مافي الأمر، ولو بذلت الجهد فستتفوقين عليّ، وتحققين مراتب أعلى )
عندما يكون اليوم شاقا سوف تحتاج في بعض أمورك الصحيّة لزيارة الطبيب خاصة وأن المعلم بحاجة لفحص دوري على صحته لذلك غادرت مدرستي مُتّجهة نحو المستوصف فقد شعرت بإعياء بسيط.
نفترق في دروب الحياة ونجتمع مع طالباتنا
و لاشيء أجمل في حياتي كمعلمة من مقابلتي لابنتي الطبيبة لأحاول معرفة أسباب ذلك الاهتمام والتقدير غير أنني كنتُ يوما ما المُشجّع والمحفّز لها بحبّ فهنيئا لي.
أراها اليوم ترفع لي قبعتها وتُلقي عليّ التحية كقائدة عظيمة.
رسالتي لجميع المعلمين والمعلمات:
رغم أنوف الجميع لايمرّ المعلم على الحياة عبثا فله بصمة أنيقة وسط الزحام لذلك ماعليك سوى أن تغرس ابتسامتك للجميع وازرع الأمل في نفوس البائسين من أبنائك.
لاتنسَ أبدا أن أعظم مايقرب المعلم من طالبه همسة في أذن الحزين: أنا بجانبك.
عمر المعلم ساعة بين طلّابه وماتبقى منه أحلام جميلة تنصب نفسها واقعًا أو خيالًا جَمِيلاً يحلق في الحياة ويشبعها سعادة وفرحا.