[2] نظرة علمية للهراء

محمد حسين آل هويدي

بسم الله الرحمن الرحيم: … «86» وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ۖ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ «87» … صدق الله العلي العظيم – البقرة.

كل منا يتعرض لعمى الهراء من حيث النطق بهراء أو تصديق هراء. إن وصلنا لهذه القناعة؛ وذلك بأننا معرضون للهراء، عندها نستطيع أن نحتاط أكثر في المرات المستقبلية التي نتعرض فيها للهراء. كثير منا يقبلون الهراء على أنه حقيقة ويعجزون عن اكتشاف الشخص الهراء، حتى لو شرق وغرب وطيّر العنز.

على كل حال، هناك مستفيدون من الهراء. ولذلك يستخدمونه في الدعاية والإعلان لجلب مستثمرين وكسب ثقة مستهلكين. وكم منا صادف شخصا يعدنا بربح 30% للأموال التي نستثمرها معه. يعطيك أول شهر وشهرين، ويكسب ثقتك وتعطيه كل ما تمتلك، أو تقترض عندما يرتفع مؤشر الطمع. وبعد أن يصطاد هذا الهراء الكثير من السذج، يهرب بأموالهم، فيصبحوا على ما فعلوا نادمين. الاستغفال لا يخص البسطاء والمساكين فقط، بل حتى العباقرة، ومنهم عالم النفس الباحث عن والمتخصص في السذاجة، ستيفن گرينسپان (Stephen Greenspan). مضحك، أليس كذلك؟، بحيث يخدع شخص هراء على آخر متخصص في كشف الهراء!

أنا عرضة لهذا الهراء، مثلي مثل غيري. ولكن حينما أرفض هذه الحقيقة وأجعل نفسي أذكى من الهراء ومن أساليبه، فأكون حينها أكثر عرضة لمصيدة الهراء بصورة أكبر من غيري، وسأكون مساهماً في ازدهار الهراء. الهراء مثل المرض والفيروس الخداع، قد يصاب به أكثر المحتاطين.

في عام 1949م، أجرى عالم النفس بِرْتْرَام فورِر (Bertram Forer) تجربة بيّن فيها بأن الهراء وتصديقه أمر منتشر بصورة متجذرة في نفوس الناس. في البداية، قامت التجربة على اختبار شخصية المتطوع. تلقى كل متطوع معلومات تزعم بأنها خاصة لكل متطوع في تحديد شخصيته. ولكن في الواقع، هي كانت مجرد تجميع فقرات من كتاب للتنجيم. بشكل لا يصدق، ظن معظم المشاركين بأن الأوصاف تنطبق عليهم بصورة عالية. ومنها، اُسْتُخْلِص بأن القبول سمة نفسية غالبة على الجنس البشري. في الغالب، التوافقيون لا يحبون قول كلمة “لا”. هم مجموعة من الناس يفضلون التوافق والسلم على الصراع والنزاع. هذا النوع من الناس أكثر عرضة لهجوم الهراء عليهم. ومن المؤسف، أنهم يصادقون على الهراء الذي يتلقونه ويروجون له.

هناك أشخاص مقربون مني وأحبهم كثيرا، وطالما يرسلون إليّ كلام منجمين وهراء من كل جانب، يحاولون إقناعي به. وبما أنني لا أحب أن أضيق خاطرهم، أسكت عن الموضوع، لأنني لا أستطيع أن أساير هذه المواضيع أو أجامل فيها لعلمي بأنهم يحطون في خاطرهم إن فتحت فمي. والأسطوانة المشروخة التي تعودت عليها آذاننا: “أنتم علمانيون لا تصدقون أشياء مجربة وصدقت عدة مرات”، وكأنهم لم ينتبهوا للقول: “كذب المنجمون ولو صدقوا [صدفوا]”. العلم يقوم على الشك. وجعل أهله يشكون في كل شيء. ولم يعودوا يؤمنون للقول دون دليل دامغ، لأن التصديق بدون دليل خلاف العلم. والصدفة لا تعني لهم أي شيء. فعلى المدّعي البينة، والإثبات من خلال التجربة وإعادتها.

ولكن تصديق الهراء ليس شيئا فطرياً لا يمكن له أن يتغير. تصديق الهراء يتأثر بالعديد من العوامل المؤقتة؛ مثل، السياق، والظروف المحيطة. وفي ذلك، أجرى عالم النفس الاجتماعي روبرت سيالديني (Robert Cialdini) دراسة، طلب فيها من بعض المتطوعين جمع أموالا من غرباء في الشارع. وطلب من مجموعة منهم أن يطلبوا المال دون سبب. وطلب من الآخرين فقط القول “أحتاج المال لأن السماء تمطر”، مثلا. ريثما يسمع المطلوب كلمة “لأن”، لا يركز على ما بعدها ولا يكترث، ويقوم بالتبرع. وهكذا جَمّعت المجموعة الثانية مالا أكثر من الأولى رغم سخافة أسبابهم. الناس فقط بحاجة لسبب لتصديق الهراء، وإن كان تافهاً جدا. وهكذا يستغل المتصيدون المساكين.

ظروفنا اللحظية ومزاجنا العام والخاص ووجود من حولنا تساهم في تصديق الهراء، بل وترويجه حتى. وهناك تجارب كثيرة بهذا الخصوص بحيث يُعطى متطوع ورقة يجيب عليها منطقيا، ولكن وبسبب قيام متظاهرين بالتطوع باختيار إجابات خاطئة عمدا، يغير هذا المتطوع إجابته المنطقية ظنا منه بأنه من المستحيل أن يكون الأكثرية على خطأ وهو على صواب. وهذا ما يحدث أثناء شحذ الجماهير حينما يتكلم قسيس بهراء في الكنيسة، فيجيب عليه الحاضرون “هلالويا” – هذه الكلمة ترادف الصلاة على محمد وآله حينما يقول خطيبا قصة خيالية فيصدقه الجموع، وليظهروا تأييدهم لما يقول، يقومون بالصلاة على محمد وآل محمد. لا بأس بالصلاة على محمد وآله، فهي غير مضرة. ولكن الضرر يأتي من تصديق كل ما يقال على المنبر، وإن كان من قصص ألف ليلة وليلة. وذات مرة، كنا نستمع عند أحد الملالي المشهورين في سيهات، وأتى بسيرة أم كلثوم المغنية، فما كان من أحد البسطاء إلا قول “عليها السلام” ظنا منه بأنه يقصد أم كلثوم بنت فاطمة بنت محمد (ص). وجود الجماعة ومثل هذه الظروف يساهم في تقبل القول وإن كان هراء لا قيمة له.

المخافة الكبرى بأن تصديق هراء واحد بسيط قد يتضخم ويؤثر على تفكيرنا العام وقناعاتنا، بل وحتى عقائدنا. فمن المصيبة أن يبني مؤمن قناعاته على هراء، حينها يصبح شخصا بلا رأي وبلا عقل وبلا فائدة. وعليه، هذا الفرد يؤثر على محيطه الخاص، الذي يتنقل للمحيط العام ليؤثر على أمة بأكملها. قصص بني إسرائيل توحي بأنهم قوم شكاكون في الحق ومترددون؛ يُكذّبون هارون ويُصدّقون السامري، ويكابرون أنبياءهم ويماطلون معهم كما حدث مع البقرة. ولكن ظروف بني إسرائيل المتزامنة جعلت أكثرهم شكاكين، وبسبب تراكم هذا الشك، بُنِي العلم الحديث. اتضح أخيرا بأن الشك أفضل من التصديق وذلك لأن أكثر ما يسمعه الناس ويصدقون به مجرد هراء، وأن الصحيح منه قليل جدا. يبدو أن زمن الأنبياء والصادقين قد ولّى، وأن أكثر ما نُقِل عنهم مجرد هراء صدقه بسطاء وتبنوه وجعلوه جزءاً لا يتجزأ من عقائدهم.

وللحديث بقية …

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com