[1 ـ 3] علوان وهجرتي من الكامبنو إلى الأنفيلد إنه عالم مختلف تماماً!
10/1
محمد الماجد
“.. أهرع بنفسي إلى إبريق النبيذ فأملأ كأسي،
ثم صرت أتبرع بملء كؤوس الآخرين.
وكانت غالا ترقص حافية القدمين على بلاط أملس ..”
موت صغير/مزرعة فريدريك
ملف آخر سَميك من ملفات محمد حسن علوان، كتاب آخر مليء بالأدلة الدامغة على وقوع علوان في شَرَك الإبداع، وعلى الرغم من أنني كنت دائم الحذر من الاقتراب من كتاب بهذا الحجم العائلي، حتى وإن كان انجيلاً أو خريطة من الخيمياء، إلى أنني تمكنت أخيراً من ايجاد طريقة لحل هذه المشكلة، فقد قمت بتوزيع صفحات الكتاب بين القراءة والسماع، بين جلسة قهوة هادئة في المنزل، وبين المشاوير التي كنت اقطعها بالسيارة إلى العمل، جربت معها لذة السماع، حتى أن لسان الرواية ضرب حول أذني حجاباً عن كل لسان سواه، فلا ضوضاء الطريق، ولا أبواق السيارات، ولا الحوادث واللجان المرورية، ولا حتى خفارات (ساهر) كان لتشغلني عن كلمة واحة من كلمات ابن عربي، ولا عن أي هامش مهما بدا مهملاً وفائضاً عن الحاجة من هوامش (موت صغير).
في الواقع لم أقرأ ولو سطراً واحداً لمحمد حسن علون حتى تلك اللحظة التي رأيت فيها كتاب بعنوان (سقف الكفاية) على أحد الرفوف الزرقاء لمكتبة جرير، بعدها عرفت أنه الإصدار الأول للمؤلف الهابط من سماء ألف ليلة وليلة، عنوان الكتاب كان لافتاً للدجة التي كنت سأشتريه معها حتى دون أن أنظر إلى ما بداخله، فالعناوين أحياناً تكون أقوى من أصحابها بكثير، (دون كيشوت) كان أقوى من ثيربانتس، و(الإلياذة) كانت أقوى من هوميروس، وكثير من المؤلفين دُفِنوا أمام هيبة عناوينهم وأرجو ألا يكون علوان أحدهم.
أعود إلى (سقف الكفاية) ودهشة اللقاء الأول، فعند وقوع عيني على الرواية لا أدري كيف قفز إلى ذهني عنوان كتاب (كفاية الأصول) لـــ الآخوند الخراساني، وهو ـ كما ترون ـ كتاب يشكل المتن الأساسي لقواعد علم الأصول في الفقه الجعفري، فتخيلت أن كتاب جرير هذا سيكون استدراكاً لما قام به الآخوند، أو حاشية عليه، ثم أتت مفردة (سقف) تلك المحملة بكل ما في المادة من صلابة لتضيف لعنوان الكتاب سحراً لم يكن ينقصه، أما ما كان ينقصني أنا في المقابل فهو تخيّل أن أحدهم قد تجرأ ووضع (سقفاً) لكتاب الآخوند الخالد (الكفاية) فأسماه (سقف الكفاية)، وهو ما لم يجرؤ أحد حتى الآن على الإقدام عليه، فمن هو ذلك المتطاول؟
ربما لو نظرت إلى ظهر الكتاب حيث ترقد توصيتان ملفتتان للدكتور غازي القصيبي والدكتور عبد الله الغذامي لتبخرت كل شكوكي ولكني لم أفعل، فتحت الصفحة الأولى فوجدت أعلاها مجلبباً بحزن يوسف “إنما أشكو بثّي وحزني إلى ألله”، فخمنت أن الأمر يتعلق بخديعة أو نكران أو الإثنين معاً، في الصفحة الثانية عرفت أن الكتاب ليس له علاقة بالآخوند، ومع تتابع الصفحات تأكدت أنني أمام مطوَّلة نثرية كتبها عاشق حانق وموتور، ذكرتني بــ قصيدة (أقداح وأحلام) للسياب، ولو خَلَت هذه المطولة من التذمر والشكوى واعتراها شيء من مسّ الشِّعر لكانت أشبه بـــ (كشهر طويل من العشق) لــ بول شاؤول، أربعمائة وستون صفحة من النثر، نهر من الكلام، لو جرى في وادي حنيفة لأيقظ كل قصص العشق التي مازالت تنام على جانبيه منذ قيس ليلى وحتى محسن الهزاني وصاحبته هيا.
وبالطبع، لم أطمع فيما هو أبعد من الوقوف على قصة عشق أخرى من قصص ذلك الوادي المحفوف بمصارع العشاق وأكباد الشعراء، تأخرتُ كثيراً قبل أن تجمعني صدفة (جرير) بــعلوان، ففي الحقيقة أنا لم أتمكن من الدخول إلى عالمه لسبب جدير بالتقدير يتعلق بسماكة ذلك الإصدار المبكر (سقف الكفاية)، والذي ظلَّ لسنوات يراقبني بعنوانه الأحمر من أعلى الرف في مكتبتي دون أن أجرأ على الاقتراب منه، حتى أتت اللحظة التي اشتريت فيها إصداره البوكري (موت صغير)، الكتاب الذي يحمل بين طيّاته سيرة الشيخ الأكبر، كان أكثر سماكة من الأول ولكنني هذه المرة تخليت عن تحفظي على الحجم، وعن هوايتي في وزن الكتب، وعن ميزان الجزارة الذي أحمله معي، فكتاب يتناول ولو سيرة متخيَّلة عن ابن عربي كتاب (يُعوّل عليه) بالغاً ما بلغ من الطول.
كل ما تمنيّته لحظتها أن تكون روح ابن عربي إلى جانبي فيما لو قررت الذهاب في مغامرتي إلى النهاية، فكّرت أن أدعو (موت صغير) و(سقف الكفاية) إلى سهرات منزلية خاصة وممتدة، نمنا نحن الثلاثة معاً، احتضنتهما، فَلَيتُهما سطراً سطراً، وفاصلةً فاصلةً، وقد شكّل مبيتنا الجماعي هذا فرصة نادرة لأقيس المسافة التي قطعها علوان بين ثالث إصدار له وبين إصداره الأخير، قطعت ألف صفحة من السرد متنقلاً بينهما حتى ارتفع أذان أبو قراط في جسدي وبدت عليّ أعراض الحمّى، انتابني لهاث يشبه لهاث الجولة الأخيرة من سباقات التحمل، تذكرت فحول دارلي متسيدة هذه السباقات، وبفضل علوان، أصبحت أكثر تبجيلاً لسلالة دارلي من الخيول النادرة، ولكم تمنيت أن أكون على ظهر واحد منها الآن في معترك هذا السباق المحموم، فكلما قطعت خطوة من (سقف الكفاية) أرجعني (موت صغير) خطوتين إلى الوراء، أقطع شوطاً هنا لأجد عاشقاً لصّاً يذكرني بأمرؤ القيس وسلالته منذ دارة جلجل وحتى مقاصف براغ، وشوطاً هناك لأجد محيي الدين بن عربي وشيوخ الصوفية، وما بينهما مدرّجات ورقية من السّرد الأزرق تنتصب على جانبي الطريق.
تمزق جسدي بين طين الشهوة ونار التصوف عدة مرات، فلا أكاد أترجل عن سرج من سروج العشق لأرتاح إلا ووجدت مائدة من الأذكار والسور المكية في انتظاري، تعبت السروج وانفضّت الموائد، ولم أكد أنتهي من الألف صفحة حتى ترجلت عن فحل دارلي ووجدت نفسي أكرر ما نقله علوان على لسان ابن عربي “رحلت الحمى عن عظامي وبقيت يس في صدري”.
غداً الاثنين.. كلامٌ آخر