ملا احمد شيخ أحمد.. كافح الملاريا في القطيف وبيشة وجيزان ونجران نشأ يتيماً.. وعمل في شركة إيطالية.. وقضى حياته بين وظيفة ومزرعة ومنبر
القطيف: أمل سعيد، ديسك صُبرة
في مثل هذه الأيام من كل عام؛ كان يتفرّغ لإقامة مجلس صباحي في منزله، “يقرأ” فيه بنفسه، ويطبخ الطعام بنفسه، ويفرش الزقاق المحاذي لمنزله بـ “مدِيْد” من البلاستيك، ليجلس الناس ويتناولوا الطعام بعد “القراءة”.
في ذلك الزقاق كان صوته يخرج من باب مجلس منزله الصغير، جهوراً، أجشّ، عبر مكبّر صوتٍ يدوي يعمل بالبطاريات.
كان مجلسه بسيطاً، وحضور المجلس من البسطاء أيضاً، وأغلبهم كبار في السن، يحضرون للموعظة وكسب الثواب. وعلى هكذا كانت “قراءته” التي يمارسها طيلة السنة في العوامية. في مجالس بسطاء القرية، يُقام أكثرها بعد المغرب، فيما يُعرف بـ “العادات” الأسبوعية.
حياته مجدولة تقريباً.. النصف الأول من النهار في وظيفة حكومية، والنصف الآخر يقضيه في قطعة نخل صغيرة قريبة جداً من منزله، وقد استأجرها من الحاج باقر الزاهر، العمدة الأسبق للقرية. وفي الليل “يقرأ” مجالس، أو في قراءة “المولد النبوي” في حفل عرس، أو بالتوكُّل في إجراء عقد زواج.
في النخل الذي كان يعمل فيه، مع أبنائه الثلاثة من اليسار: محمد، سعود، علي
الحازم العطوف
الملا أحمد بن محمد بن صالح بن أحمد بن محمد بن الشيخ أحمد بن الشيخ حسين بن ناصر بن عبدالله آل ثويمر العوامي.. هذا هو اسمه ونسبه المتسلسل، لكن سكان العوامية كانوا يعرفونه باسم “ملا اْحْمد شيخ أحمد”. وعرفوا فيه رجلاً صالحاً، نزيهاً، مربّياً، كريماً، شديد التعاطف.
في إحدى الحوادث؛ توفّي شابٌّ من البلدة في مِيتةٍ مُخجلة. حتى أن بعض أهله استنكف منه؛ فتبرّع الملا أحمد شيخ أحمد بإقامة مجلس عزاء له. وحين سُئل عن الموضوع قال جملة قصيرة جداً، لكنّ في إشارة كبيرة.. قال “وفد على كريم”، قاصداً الشاب المتوفى.
كان ظاهره حازماً وحاسماً، وصوته أجش صاخباً، ونبرته حادّة.. لكنّ في داخله إنساناً شديد التعاطف. ربما لأن نشأته يتيماً معطوفاً عليه؛ ربّته على منح الآخرين العطف.
توفّي والده عنه وهو في التاسعة من العمر، ثم تزوجت والدته بعد ذلك برجل من عائلة عرف عنها كفالتها للأيتام، وقد وفرت له العائلة حياة كريمة حتى كبر واشتد عوده، وعامل الناس بمثل ما تربّى عليه.
من الملالي
لم ينتشر صيته كثيراً، لكنه عُرف خطيباً في العوامية والقديح، ويبدو أنه لم يسعَ إلى توسيع نطاق عمله إلى أبعد من القريتين المتجاورتين.
وبحسب معلومات جمعها من العائلة ابنه المهندس علي؛ فإن الملا أحمد ولد عام 1345هـ تقريباً، وهو الولد البكر لعائلة تتكون من 4؛ ولدين وابنتين. وعاش 85 سنة.
يقول المهندس علي “توفي جدي الحاج محمد شاباً وأبي حينها كان طفلا في سن الـ 9 تقريباً، ثم تزوجت والدته من الحاج صالح آل زايد، وهو الأخ الأصغر للحاج محمد علي آل زايد المعروف بكفالته لكثير من أيتام العوامية هو وزوجته الحاجة طيبة بنت سلمان بن حبيب آل غانم رحمهما الله. وقد تكفل الحاج محمد علي آل زايد بوالدي إلى أن بلغ سن الرشد، حيث عمل مساعداً له في عمله. ثم تزوج والدي من ابنة الحاج محمد علي وعمره 22 سنة، عام 1367هـ”.
من الفلاحة إلى الصحة
امتهن الملا أحمد الزراعة في بداية حياته، ثم التحق بالعمل في شركة إيطالية في مدينة رحيمة وهي شركة متعاقدة مع شركة الزيت العربية الأمريكية، أرامكو السعودية حالياً، وكان عمره 17 سنة، وتنقل في العمل بين الظهران ورحيمة.
ويصف ابنه المهندس علي تلك المرحلة من حياة والده “تعلم أثناء عمله في الشركة القراءة والكتابة باللغة العربية، ومبادئ الحساب، وشيئاً من اللغة الإنجليزية، بالإضافة إلى تعلم الطبخ. وكان ذلك تقريباً ما بين عام 1362 هـ -1367”.
يضيف “كان للتعليم الذي تلقاه في الشركة الأثر الكبير في مسيرة حياته فيما بعد”.
بعد تجربة شركة الزيت عمل الملا أحمد في برنامج مكافحة الملاريا الذي نفذته الحكومة في القطيف، حيث كان المرض منتشراً في المحافظة. يقول المهندس علي “التحق أبي عام 1374هـ بالعمل الحكومي في وزارة الزراعة ـ وقتها ـ كمشرف على فرق مكافحة الملاريا، واستمر في العمل قرابة 22 عاماً، أي إلى عام 1396هـ، وتم انتدابه ضمن فرق المكافحة لعدة أشهر إلى محافظات في جنوب المملكة مثل جيزان ونجران وبيشة لنفس الغرض. وبعدها تم نقل خدماته الى وزارة الصحة، وبقي فيها إلى أن بلغ سن التقاعد عام 1411هـ”. وكانت آخر وظيفة له في مقرّ مركز الدم المنجلي الواقع بين القديح والعوامية.
ثويمر وشيخ أحمد
بالرغم من أن الملا أحمد ينتمي إلى عائلة الثويمر إلا أنه عرف بآل الشيخ أحمد وعن ذلك يقول ابنه “تنسب عائلة الوالد لقباً إلى الشيخ أحمد بن الشيخ حسين آل ثويمر العوامي، المتوفى عام 1235هـ تقريباً، وذلك لشهرة الشيخ أحمد في العوامية كما تشير وثائق مكاتبات وعقود كُتبت بخط يده آنذاك”.
ويضيف “عائلة الثويمر من العوائل العلمية الإخبارية القديمة في القطيف حيث ذكر سعود عبد الكريم الفرج في كتابه “العوامية بين عراقة الأمس وإبداع اليوم” عدداً من العلماء؛ منهم الشيخ عبدالله الثويمر والشيخ حسن الثويمر. ودعم كلامه بوثائق تاريخية يحتفظ بها، كما كانت الزعامة الاجتماعية في بلدة العوامية ـ آنذاك ـ في أسرة الثويمر في زمن الدولتين السعودية الأولى والثانية، ولم تعد كذلك مع بداية الدولة السعودية الثالثة”.
ويقول المهندس علي “مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض تحتفظ بمخطوطات أصلية بخط الشيخ أحمد بن الشيخ حسين بن ناصر بن ثويمر، كما أن الشيخ أحمد الذي تنسب إليه أسرة الشيخ أحمد كان معاصراً وثقة للفقيه القطيفي المعروف الشيخ محمد بن عبد علي آل عبد الجبار”.
الشيخ سعيد أبو المكارم
الملا أحمد آل زايد.. شقيق زوجة الملا أحمد وأستاذه في الخطابة
خطيباً
درس الملا أحمد على يد الشيخ سعيد بن الشيخ علي أبو المكارم بعض مبادئ النحو واللغة العربية، أما الخطابة فقد تشرّب حرفتها على يد صهره وجاره الخطيب المرحوم الملا أحمد آل زايد، واستمر في ارتقاء المنبر الحسيني لمدة 6 عقود”.
ويذكر المهندس علي “بدأ والدي رحمه الله الخطابة عندما كان في سن 23 سنة، وبقي كذلك إلى أن أقعده المرض والعجز، أي قبل وفاته بسنتين تقريباً عام 1430هـ، وكان لديه مأتم خاص في منزله في الحي المعروف بـ “فريق الرحيل” وعادة أسبوعية طوال العام، وسنوية في العوامية والقديح”.
“كما كتب الشعر الديني الشعبي والفصيح، وله ديوان مخطوط، وكتابات في قضايا اجتماعية”.
معلّماً
يقول ابنه المهندس علي “بجانب عمله الاعتيادي عمل والدي، وهو في الـ30 من عمره، في تعليم الصغار من الأولاد والبنات مبادئ الكتابة والقراءة، إضافة إلى القرآن الكريم، كما أنه كان يقوم بتعليم وتدريب الراغبين في الخطابة، ومنهم الخطيب المرحوم ملا علي عبد الكريم الفرج”.
مكتبته
كان الملا أحمد شغوفاً بالقراءة والاطلاع، وتزامنت أولى مراحل تعلقه بالكتب مع بداية استعارته لها من مكتبة صديقه الشيخ سعيد أبو المكارم، وتلت ذلك مرحلة إنشاء مكتبته الخاصة، التي يقول عنها المهندس علي “ضمت حوالي 4000 عنواناً من الكتب، تنوعت بين كتب الفقه وتفسير القران الكريم والحديث لمختلف المذاهب الإسلامية، كما احتوت على كتب التاريخ واللغة العربية والفلسفة وعلم الأصول بالإضافة إلى الكتب العلمية المعروفة آنذاك، كدائرة معارف القرن العشرين لمحمد فريد وجدي، وبجانب كل ذلك الكتب المعنية بالقضية الحسينية”، ويضيف لقد ” بذل والدي جهداً كبيراً و مالاً كثيراً في جمع هذه المكتبة، على مدى عدة عقود من حياته، حيث كان يجْدُّ في الحصول عليها سواء من النجف وكربلاء أو من سوريا أو من المكاتب المحلية”.
مع زملاء العمل في أواخر سنوات عمله
مرشداً دينياً
كان الملا أحمد، عادة، يسافر سنويا إلى زيارة النبي والأئمة عليهم السلام، ويقضي مع عائلته عدة أشهر متنقلا بين المدينة المنورة ومشهد وكربلاء والنجف والسيدة زينب، وغالباً ما كان يسافر مع حملة السيد أحمد الهواشم رحمه الله ويقوم بدور المرشد الديني”.
وفاته
بعد تقاعد الملا أحمد بعدة سنوات أصيب بفشل كلوي عام 1419هـ، و ظل في جلسات غسيل الكلى لمدة 11 عاماً، إلى أن توفي رحمه الله في الـ3 من شهر شعبان عام 1430هـ، ودفن في مقبرة العوامية.