عبدالخالق] 5 سنوات من ألذّ الأيام وأسعدها
الشيخ عبد الغني العرفات
عرفت الأخ العزيز الراحل في سنوات الصغر عندما كانت تجمعنا بيئة واحدة بالرغم من فارق العمر بيننا وبينه، إذ هو يكبرني بخمس سنوات، ومع أنه ذهب للسكنى إلى خارج القديح مع أسرته؛ إلا أن روابط القرابة بينه وبين أسر عديدة في القديح كانت كفيلة بأن نجتمع في أماكن متعددة، منها المساجد، والحسينيات، وكذلك العادات الحسينية التي كانت تقام في كل ليلة. وكنا نجتمع في تلك الأماكن ونتسامر ونتحاور ونتبادل المعلومات.
فمما أتذكره أنه ارتقى المنبر مراتٍ عديدة، كقارئ مقدمة للخطيب الذي يقرأ في تلك المجالس، وهو ما يعرف بـ “الصانع”. وكان ذلك في بيت خالته آل القصير.
ثم تتوالى السنوات فيجمعنا تحقيق التراث، فكان يكتب في مجلة المسجد التي كانت تصدر في محلة الوسادة، وكان يشرف عليها الإخوة الأعزاء من آل البيك، فكتب وكتبت فيها، يجمعنا هم التراث المتعلق بالمنطقة.
وشاءت الأقدار أن نتناول الحديث حول ديوان ابن المقرب العيوني ونجلب هذه النسخة من مدينة مشهد في خراسان، بمعونة بعض الإخوة والأصدقاء هناك، لأنني سبق أن حصلت على مخطوطة الكشكول للشيخ إبراهيم آل عرفات.
وكان وصول النسخة الرضوية بيد أخينا الأستاذ علي البيك، وقد جاء الأستاذ المرحوم متلهفًا واستلمها منه كما أتذكر. فكتبت في مجلة المسجد (وقفة مع الكشكول)، وكتب هو حول الشيخ إبراهيم القطيفي وردوده على الشيخ الكركي، فشرعت في الكشكول، فصادف العمل فيه مع العمل في ديوان ابن المقرب، فكانت تجربة عملية تطبيقية لما تعلمته وما درسته في كلية المعلمين من علوم النحو والصرف والبلاغة والعروض وطرق التدريس والبحث الأدبي، فوجدتها فرصة لتطبيق كل هذه العلوم.
ولحافظته القوية استعنت به في تخريج بعض أبيات وقصائد الكشكول التي لم أهتدِ إلى قائلها، وقبل خروج البرامج الكمبيوترية التي سهّلت بعد ذلك معرفة أسماء هؤلاء الشعراء.
وبعد مضي – حوالي سنتين – من العمل في ديوان ابن المقرب اتصل بي الدكتور عبد الرحمن الملا عبر هاتف أرضي، ولم أكن أعرفه وربما اهتدى إلى رقم المنزل من خلال كتاب الأرقام دليل الهاتف السعودية وقتها، فاتصل أولًا ببعض الأقارب، ثم اهتدى إلى رقمي، فعرّف عن نفسه وطلب شيئين:
طلب بعض المخطوطات التي حصلنا عليها المتعلقة بديوان ابن المقرب،
والأمر الآخر عرض علينا أن نطبع هذا العمل بعد أن ننتهي منه ضمن جائزة البابطين الذي كان أحد أعضائها، وأبدوا استعدادهم لمساعدتنا، فكان لنا رأي آخر بيّنه بعد ذلك الراحل الأستاذ ـ الجنبي ـ في الحلقات والمساجلات التي كتبها في الجرائد والمجلات حول العمل الذي قامت به مؤسسة البابطين.
وبعد أن اجتمع رأينا على عدم المشاركة في الجائزة، وأن نطبع الديوان على نفقتنا، وأن نعطي أنفسنا الوقت الكافي لإخراج الديوان على أكمل وجه؛ نشرت المؤسسة الديوان بتحقيق شخص آخر، ومع هذا وجهت لنا دعوة رسمية باسم الحكومة في مملكة البحرين لحضور المؤتمر الخاص بدورة ابن المقرب التي نظمتها مؤسسة البابطين. ولم أشأ الذهاب، فذهب هو وأُهديَ مجموعة كبيرة من إنتاجات المؤسسة.
وفي الواقع؛ إن هذه السنوات الخمس التي قضيناها في تحقيق الديوان كانت من أسعد الأيام وألذها، وكانت لا تخلو من مخاطر جمة وصعوبات كبيرة، فمن هذه الصعوبات أننا عملنا ما أمكننا للحصول على العدد الأكبر من المخطوطات من جميع أنحاء العالم، فمن تلك المخطوطات التي حصلنا عليها كانت عبارة عن مجموعة جلبتها من المتحف العراقي في بغداد أيام النظام السابق، وكانت بمعونة أحد الدكاترة الكربلائيين، وقد غامر بنفسه من أجل الحصول على تلك المخطوطات، حيث كان النظام ـ في وقتها ـ يمنع تصوير كامل المخطوط، ويتيح للمحققين والباحثين تصوير ثماني أوراق أوعددٍ من الصفحات فقط.
وكان ما كان بحصولنا على هذه المخطوطات، وكانت مهمة إخراجها من العراق مهمة صعبة، بحيث يمكن أن يؤدي بالإنسان إلى مشاكل قد قد تمسّ حياته. وصادف ـ في ذلك الوقت ـ أن نشرت جريدة الشرق الأوسط خبراً عن إعدام أحد السادة العراقيين بتهمة تهريب التراث، وعليه؛ كان إخراج مخطوطات ابن المقرب من الحدود العراقية الأردنية مجازفة.
هذه إحدى المخاطر التي واجهتني في الحصول على هذه المخطوطات، ومن تلك الحوادث التي لا أزال أتذكرها؛ هي أننا كنا نقضي الصباح بالكامل من بعد صلاة الفجر إلى أذان الظهر في الجلوس سوية، وبعد الإفطار في منزله وفي ضيافته في الدخل المحدود وصوت (السماور) وأبخرته تبعث على التأمل واكتشاف الغامض من ألفاظ تلك المخطوطات.
كنا نجلس للمقارنة وتطبيق المخطوطات المتعددة وتوحيد النص واختيار الألفاظ المناسبة الصحيحة من بين هذه المخطوطات، يمسك كلّ واحد منا مخطوطةً ونقرأ الأبيات، ونبدأ بعد ذلك بالتعليق عليها واختيار اللفظ المناسب، والتدقيق، فيها فتجري البحوث الأدبية واللغوية والإملائية وكل ما يتعلق بهذه الألفاظ.
وبين الفينة والفينة يرمي بساحتنا فكاهة أو شعرًا من محفوظاته، أو يجري الحديث حول أحداث الساعة، ويروي كل واحد منا ما في جعبته من نكات أو نوادر، ثم نعود إلى ما كنا عليه من تطبيق المخطوطات حرفًا بحرف.
وقد اخترنا أن نذهب يومًا من الأيام إلى مزرعة خارج البلد، وخصوصًا في أيام الربيع أو الشتاء، وكانت هذه المزرعة مكان يجلس فيه والده رحمه الله، وهو عبارة عن بيت من الخشب، وكان الهدف أن نقضي وقتاً ممتعاً، وأن نغير من ذلك الجو الذي كنا نقضي فيه التحقيق ونستبدل مكان التحقيق بمكان آخر لا لغرض النزهة فقط.
وفي أحد المرات؛ ذهبنا وفي الطريق وقع حادث كاد يودي بنا إلى الهلاك، إذ انفجر إطار السيارة ولعله كبس المكبح فأخذت السيارة تجول بنا عدة جولات دائرية لا أعلم كم هي بحيث لا نستطيع التحكم في السيارة، ولكن الله سلم بأن الشارع لم يكن فيه السيارات التي تمر، إلى أن توقفت السيارة بنفسها وقد نجانا الله سبحانه وتعالى من هذه.
ومما أذكره هنا أيضا أن أسلوب الأخ الأستاذ كان مميزا ومعروفا لدى الأغلب أو الجميع، فقد أخذت المجلدات الثلاثة التي صدرت من الديوان إلى العلامة الفضلي رحمة الله تعالى عليه، فلما وقعت عيناه على المقدمة وقرأ فيها قال لي هذا أسلوب الأستاذ عبد الخالق، لأننا كنا قد أوكلنا له مهمة كتابة واستنساخ الديوان إلى معرفته بقضايا الكمبيوتر والكتابة القاعدية والسرعة في الكتابة، فكانت نتائج الأفكار والتداول بيننا يثبتها الأستاذ في الديوان لأن الجلسات التحقيقية كان يتداول فيها كل ما يتعلق بالديوان وتترك الصياغة له.
وأما الحديث عن وجهات النظر والآراء فلكل منهجه ورأيه في البحث التاريخي والتراثي ومن الطببعي جدًا أن تختلف الآراء لاختلاف الطبائع والقناعات وسيترك الراحل أثره في البحوث المتعلقة بالمنطقة قبولا وردًا.
رحمه الله بواسع رحمته ونسأله تعالى أن يعوضنا وأهله وذويه والمنطقة بأمثاله والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
كنت افكر اليوم عن كيفية وقع خبر الرحيل على قلبك أبا محمد… وأتوقع أن يذرف براعك دموعا لتسطر بعض الذكريات حول مائدة ابن المقرب .. وهاهو حدسي .. فخلف ما سطرته لحظت ارتباكا في لملمت الذكريات…. بورك يراعك ورحم الله أبا طاهر بواسع رحمته