2] غليان الربع الخالي أمل.. المرأة جزءاً من مشكلات البيئة
محمد الهلال
وربما لم يكن السجن الذي يقصده عابد خزندار في رواية “الربع الخالي” الحبس بين أربع جدران بسبب قضية يعاقب عليها مرتكبها بذلك، فهناك سجون كثيرة يتكلم عنها خارج هذا الحيز الضيق، ومنها سجن العادات والتقاليد، سجن المرأة، سجن اللغة.
فإذا تتبعنا الرواية جيدا نجدها تتكلم عن تفشي القبلية والمحسوبية (الواسطة) وعدم إعطاء المرأة أية أهمية أو قيمة في المجتمع وكأنها شيء مسلم به له فائدة ولكن ليس له أي حيز من الوجود الاجتماعي، وكأن الحياة خلقت للرجل دون المرأة. ولم ينس حقوق العمال في رواية الربع الخالي فهي تقدم قراءة لبعض إخفاقات الماضي، وخلال المحاور القادمة سوف أتطرق بعمق لتلك الظواهر وأستهلّها بالمرأة.
أ- المرأة الشريكة
ترتبط بالرجل عن قناعة، تقف معه رغم كل الظروف، ولا تصاب باليأس أبدا، لماذا؟ لأنها لا تتشارك معه الحياة فقط، بل وحتى الأفكار والقناعات. كيف؟
بالتوافق الروحي والعقلي، نتيجة الحوار، احترام الآخر بإعطائه المساحة الكافية له للتعبير عما في داخله.
في بداية الحكاية وبعد خروج البطل من السجن، أول قرار اتخذه البحث عن عمل من أجل الاستقرار لأجل تلك المرأة التي انتظرته طويلا كما يقول في الصفحتين ٧و٨: “وبدأت البحث عن مسكن أشتريه وآوي إليه ……، قانعة براتب الضمان الاجتماعي والحياة في رباط قديم في أم المدائن”.
هو لم يكذب عليها ورغم ذلك ظلت صابرة ومتحملة، إذ يقول في الصفحة ٨: “ولكني قلت لها أن تقلع عن زيارتي دفعا لفضول الجيران خصوصا وأن إقامتي في الاستراحة لن تطول، وسيجتمع شملنا قريبا وهذا لا يعني أننا سنتزوج وسنعيش قريبا في (ثبات ونبات ونخلف صبيانا وبنات)”.
ويتحدث في مقطع آخر ليقرب الصورة أكثر عن المرأة التي أحبته وارتبطت به، وكانت معه بالشدة قبل اليسر، في الصفحة٨: “على أنني هنا أستبق رواية الأحداث إذ أنني كما قلت قبل قليل سأروي قصة أمل فيما بعد، من يدري، ربما لن أتمكن من ذلك وحسبي هنا أن أقول إنها الوحيدة التي بقيت من عائلتي بعد أن توفي والدي ووالدتي وذوو قرباي”.
هنا هو لا يكتفي بأن يشيد بدور المرأة، بل يصرح بأكثر من ذلك، ويقر لها بالوعي المتقدم عليه، إذ يقول في الصفحة ٨: “ولو أنني لا أعرف العلة الحقيقية التي تصلني بها، أما هي فقد اتضح لي بعد سنين عدة أنها كانت تعرفها”.
ولكن أي وعي كانت تملكه أمل؟ وهي فتاة من مواليد أربعينيات القرن العشرين، ولو تأملنا حال الفتيات في ذلك الوقت في الربع الخالي، لعرفنا أنه لا يسر، فمن ابتسم لها القدر ونشأت في أحضان عائلة ميسورة سُمح لها بالتعليم، أما الأغلبية الأعم من الفتيات، البعض منهن يقرأن بعض سور القرآن، ويتفرغن للأعمال المنزلية، تربى الفتاة منهن على سماع أوامر الرجل سواء كان أبا أو أخا أو زوجا، وترضع منذ أن كانت صغيرة كيف تكون امرأة صالحة لبيتها وزوجها، وأن أسرار البيت لا تخرج منه، والصبر والتحمل من أجل الزوج، وتربية الأبناء، إذ إن الوعي الذي تحدث عنه هنا، وعي بدورها كزوجة، وسوف يتطور هذا الوعي عبر التجارب والتعليم والانفتاح على العالم الآخر، بينما لم يع الرجل قيمة وأهمية الزوجة إلا بعد أن خاض عدة تجارب في الحياة وهو لا يلام.
ترعرع في بيئة لا تعطي أية قيمة للمرأة، بيئة تصور الحياة الاجتماعية قائمة على الرجل، لم يتطور وينضج إلا بعد أن خرج منها، واحتك بعوالم مختلفة، وبشر مختلفين، من نساء ورجال، النساء هن من لفتن نظره أكثر، مختلفات عن نساء المجتمع الذي أتى منه، تعلم من الاحتكاك بهن، إذ يقول في الصفحتين ١٦و١٧: “كل تجاربي في هذا الصدد مارستها مع نفسي، ولجأت إليها مضطرا، وكنت أحس بعدها بالذنب والندم، وكل ما أعرفه من المرأة استخلصته من الكتب فالجزء الذي أمضيته من حياتي في الكتب أكثر من الذي أمضيته في قاع الحياة وصميمها ونسائها (لا أدري لماذا قلت له ذلك، لا ضير، فهو لن يفهمه)”.
هو يؤكد جهله للمرأة ونظرة المجتمع العامة لها إذ يقول في الصفحة ١٧: “والمرأة في حياة العربي إما أن تكون زوجا وإما عشيقة”.
هنا هو ينتقد العلاقة بين المرأة والرجل العربي، فهو لا يراها ندا له، بل لا ينظر لها ككائن حي، لهُ حقوق وواجبات فهي إما زوجة تابعة له في كل شيء أو عشيقة يمارس معها الجنس، وهذه العلاقة غير المتكافئة تبقي المجتمعات مشلولة غير قادرة على الحركة، فنصف المجتمع غير معترف به من النصف الآخر، وهو أحد الأسباب الرئيسية لعدم تقدم بعض المجتمعات العربية، يا أبيض يا أسود، لا وجود هنا للألوان، للرأي المختلف، للتساؤل المغاير. للخروج من هذا التصور العام يحتاج المرء أن يغادر الأماكن المغلقة بالتفكير، إلى رحابٍ أوسع تساعد الوعي على التشكّل بصورة أكثر حداثة.
ويوضح ذلك في فقرة من الصفحة ١٧: “والأمريكيات لسن كذلك” ويكمل من نفس الفقرة: ” قلت في الأغلب الأعم لا، فهن يعتبرن أنفسهن ندا جنسيا للرجل، والنصف الثاني من القرن العشرين أعطاهن حق المساواة مع الرجل في التمتع بالجنس. على أن البعض منهن يتاجرن بأجسادهن نتيجة للعوز”.
فقرة تطلب منا التأمل جيدا، فهو يشير إلى أمر في غاية الأهمية، ربما لا وجود للعدالة المطلقة في أي مكان على وجه الأرض، العدالة نسبية ومتفاوتة بين مجتمع وآخر، وفي نهاية المطاف يعود إلى شخصية أمل، إذ يقول في الصفحة ١٣٦: “وذهبت إلى الرباط الذي تعيش فيه أمل لآخذها للعيش معي، فرفضت قائلة لي إنني يمكن أن أسجن مرة أخرى وتفقد غرفتها في الرباط، على أنني لم أقتنع بما قالته، ولكني لم ألح عليها في الأسئلة، وقلت لها إنه ليس هناك ما يوجب سجني مرة أخرى، وسأبحث عن عمل. ولكنني أريد أولا أن أبحث عن عائلة المصري…، وكانت تعرف حكايته إذ أخبرتها عنه في إحدى رسائلى إليها، وأعوض عائلته، وكان لدي حساب في البنك تراكم أثناء سجني ولم أستعمله بالطبع.
فنظرت إليّ غير مصدقة معتقدة أنني لن أجد أثرا له خصوصا وأنه هرب من المعسكر بدون جواز سفر. وبعد موته لم توجد بحوزته أية أوراق. فقلت لها سأحاول. والمهم أنني لن يهدأ لي بال إلى أن أجده. فدعت لي بالتوفيق رغم أنها فيما بدا لي لم تصدق أنني سأنجح في مسعاي”.
في هذا المقطع يتضح أن هناك حوارا بين الرجل والمرأة ويبدو أن تفكير المرأة بدأ يتبلور وينضج بشكل أسرع من الرجل رغم أن الرجل تعرض لتجارب أكبر وأكثر من تجارب المرأة إلا أنها كانت تحمل أفقا أوسع منه والدليل أنها توقعت أن يعود للسجن مرة ثانية، فهي تؤمن بقضاياه ولكن كانت تختلف معه بطرق الدفاع عنها.
لكن يبدو أن الرجل في مجتمعنا قد يبقى حاملا لجينات العناد وأن رأيه يفوق رأي المرأة حتى لو تقدمت بالعلم والفكر.
في النهاية بعد أن فهم واستوعب المرأة أكثر، يعود إلى أمل ويحضنها ويكمل معها المشوار. إذ يقول في نهاية الرواية في الصفحة ١٤٩: “ولكنني فكرت مرة أخرى في أمل وأحسست مرة أخرى بوخزة الضمير وهو شعور ينتابني ويطغى على كل أحاسيسي حين أفكر في امرأة أخرى كما حدث مع مرفت، أمل التي أحببتها طوال حياتي رغم أن القلب قد ضل وتاه غير مرة ولعل السبب في ذلك أنني لا أعرف مدى قرابتها لي”. هي عودة ليست لأمل الحبيبة فقط بل عودة للمرأة، للأمل الذي يسكنه بتغيير تلك الصورة وإعطائها المساحة الكافية كي يساهمان معا في تطور الحياة وإعمار الأرض كما أمر الله تعالى في كتابه العزيز.
يُتبع
اقرأ الحلقة السابقة