جعجعة تنموية 3] هل تتطبع منظومات العمل بطبائع قادتها؟ هل تتشكل ثقافة بيئة العمل على يد مجالس الإدارة؟
الدكتور نايف الدبيس
لو أن مجلس الإدارة هو الأب أو الأم للجمعية، فهل يربي هذا الأب والأم مَن دونه على الاستقلالية أم الاعتمادية المستمرة؟
مصفوفة الصلاحيات، هل تم تحديثها على مدى عقود متتالية أم لازالت كما هي؟
تتماثل جمعيات القطيف الأهلية. يظهر هذا التماثل اليوم في صورة واضحة: نمطية تأسيس الروضات والمراكز الطبية. ثم نجده في تسميات اللجان، وأخيراً في المواقع الالكترونية على الانترنت، كلها ذات قالب واحد وإن تفاوتت في تفعيل بعض الأقسام والحقول! أهم استنتاج لي من ملاحظة هذا التماثل المستمر هو أن جمعيات القطيف لديها فاعلية وقابلية التأثر ببعضها البعض وهذا يعطي فرصة لأمل أكبر في أن تكون أي عملية تحول ناجعة في هذه الجمعية أو تلك، تكون عابرة للحدود ويصل مفعولها للكل. إذن على القادة في مجالس الإدارات الانتباه فضلاً إلى أن أداءكم القيادي سيكون دوماً مفتوح التأثير.
الدائرة الحرجة
تمثل مجالس الإدارة الدائرة الحرجة التي تربط بقية دوائر الفعل والتأثير في منظومة أي جمعية من دائرة الناس في المجتمع باتجاه الخارج وكذلك دائرة العمل التنفيذي باتجاه الداخل. الكلمة المرادفة لمجالس الإدارة هي: القيادة. وهنا سوف أصمت قليلاً.
حتى لا نمل سريعاً من هذا الصمت، فلأتشارك معكم ما يلي. في يونيو ٢٠١٧ كنت في بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية، لختام برنامج هارفارد للقيادة للأطباء، كنت أتعلم. المهم في البرنامج الختامي هو أنني حظيت بالاستماع إلى بروفيسور دونالد برويك متحدثاً إلينا ونحن مجموعة من أطباء الأطفال من مختلف أنحاء العالم. د. برويك كان رئيس معهد تحسين الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، وكذلك عمل كمستشار لأحد قادة الولايات المتحدة. في ٢٠ دقيقة رسم لنا خط التغيير الذي أصاب منظومة الرعاية الصحية والعمل الطبي من منتصف القرن العشرين وما السمات الأساسية لكل حقبة، من وقت ما كان طبيب واحد يدير الرعاية الصحية لقرية كاملة بدون تخصص ويعالج الصغير والكبير والرجل والمرأة وما بعد ذلك من دخول تنظيمات للعمل الطبي وصلت لتطبيق مفاهيم الجودة مأخوذة ً من عالم الصناعة حتى اللحظة الراهنة التي أمسى فيها الطب ممارسة آلية يعمل منسوبوها للوفاء بمتطلبات ورقية أو حاسوبية لتحقيق درجات على مؤشرات الأداء! ولقد كانت منه لحظة تعبير عن الأسى أننا فقد حلاوة وعاطفية العلاقة بطبيب القرية لأجل تطبيقات الجودة والسلامة وحوكمة الأداء ولكننا بدأنا نفتقد الإنسانية في التعامل مع المرضى!
بالمثل، فلنعرفْ أن تطبيق الحوكمة في الجمعيات ليس نهاية المطاف وليس هدف، بل هو وسيلة تمكين وتجويد. والقيادات الإدارية متمثلة في مجالس الإدارات هي التي تميز وتنشر القدرة على التمييز لدى العاملين بين الأهداف والوسائل وتمنع الضياع في دهاليز الوسائل لكيلا نتأخر عن بلوغ الأهداف، التي محورها إنسان بحاجة إلى خدمة.
صور المؤسسين
بالحديث عن الإنسانية، تظهر أمام عيني الآن صور المؤسسين للجمعيات، أولئك الأجداد كريمي الطبع أصيلي المعدن، حين كانوا بقلوبهم الرحيمة يذهبون بأنفسهم ليكونوا عند كل مسكين وبين يدي كل عاجز. ظلوا لسنوات هم من أسس هم من يدير وهم من يحسب ويكتب وهم من يستقبلون طالبي المساعدة بأنفسهم. تلك حسناتهم وحسنات زمانهم. كانوا قادة في طور التأسيس ولهذا الطور مقتضياته، فما هي مقتضيات الدور القيادي بعد ٥٠ سنة من التأسيس؟
كيف تعمل..؟
بدأت في معايشة مجالس الإدارة وملاحظة كيف تعمل في تلك اللحظة الأولى التي زرت فيها الحاج أحمد الحلال رحمه الله وغفر له، إذ كان هو رئيس مجلس إدارة جمعية سيهات، حيث تقدمت له بطلبي للتطوع في المجمع الصحي التابع للجمعية وأنا طالب بكلية الطب. ثم تحول أمري ليد الحاج مهدي الناصر حفظه الله إذ كان عضو مجلس الإدارة ومقرر اللجنة الصحية. آنذاك كان كل عضو من أعضاء المجلس مقرراً لإحدى اللجان، ويبدو حتى الآن بعض جمعياتنا تعمل على هذا النحو! من ذلك الوقت بدأت تجربتي في العمل الاجتماعي موازية لتجربة دراسة الطب وتطبيقه، بفضل الله. كان لهذا التوازي دور في تعزيز الفهم والإدراك حيث أن منظومة الرعاية الصحية ومنظومة الرعاية الاجتماعية لديهما مشتركات في البنية والعمليات وكذلك في استهداف النتائج. تعلمت أن تكوني عيني على العمليات وعيني على النتائج.
وبالمثل يمكن القول: عيني على الجعجعة وعيني على الطحين!
استمرت التجربة على مدى ٢٢ سنة عمل بقرب مجالس القيادة المتعاقبة وكنت عضواً في أحدها ٢٠١٤-٢٠١٨ م وكانت فرصة للشهود على دينامية هذه المجالس وكيف تدار الأمور فيها بل والمشاركة ومحاولة إحداث تغيير. كذلك شهدت دخول الجمعية في عالم الاستثمار والسعي في طريق تنويع واستدامة إيرادات الجمعية. على مدى ٢٢ سنة رأيت المسموح والممنوع والممكن وغير الممكن، المتوقع وغير المتوقع. عايشت نقاط الاحتكاك بين مكونات الجمعية، ولاحظت عقلية ونفسية موظفيها الأحبة ورصدت مستويات الشغف لديهم، مرتفعة ومنخفضة. وفهمت دور الخطوط الأمامية في منظومة الجمعية. خلال هذه الفترة تشكلت عندي قناعات عن دور وواجبات مجالس الإدارة. طبائع مجلس الإدارة (محصلة طبائع أعضاء المجلس) تمثل مصنع للثقافة السائدة في بيئة عمل الجمعية، شعورياً أو لا شعورياً.
عنق الزجاجة
مجلس الإدارة بكامله أو من خلال لجنة تنفيذية تنبثق منه، كان هو عنق الزجاجة التي تتحرك منها مخرجات الجمعية بالاتجاهين. تتعلق على اجتماعاته القرارات والإنجازات. هل لا زالت مجالس الإدارة عنق الزجاجة؟ البعض يؤمن بضرورة وجود عنق للزجاجة! من الناحية النظامية وبمطالعة اللائحة التنفيذية الجديدة وقواعد حوكمة عمل الجمعيات يظهر لنا كيف تم دفع مجالس الإدارة لصعيد بعيد عن الممارسة اليومية للعمل، وقد أقول تحييد مجلس الإدارة عن الأعمال التنفيذية حتى يتخلص من الانحيازات الشعورية واللاشعورية، ومن هناك –من موقعه المحايد تنفيذياً- يقوم بدوره التشريعي وتدشين سياسات العمل ومراقبة الجهاز التنفيذي وضمان تحقق ثلاثة أهداف قيادية:
- صناعة الرؤية
- تصميم نموذج الأداء
- ضمان السير باتجاه الرؤية
وهذه الأهداف القيادية لا يمكن تحقيقها إلا عبر ما تحدث عنه د. دانييل غولمن في كتابه: “التركيز، الباعث الخفي للتفوق / Focus: The hidden driver for excellence”” حيث أشار وبكل وضوح أن أزمة القيادة والقياديين المعاصرة تكمن في غياب التركيز. ولقياس تركيز مجالس الإدارة علينا قياس تركيز كل عضو على دوره بشكل عام ثم تركيزه في الاجتماعات وما يدور فيها ثم تركيزه على تقارير الأداء المفترض أنها تصل إليه بالوقت الأمثل.
هل لدى الجمعيات الأهلية لوحة مؤشرات dashboard وتتبع للأعمال لقياس التقدم progress ؟ ومن هذه اللوحات الالكترونية بضغطة زر (من غير كلام) يصدر تقرير. ولكن هل يحدث ذلك من دون تحول رقمي في منظومة العمل؟
اللائحة التنفيذية للجمعيات تنص على الاكتفاء بأربعة اجتماعات لمجلس الإدارة سنوياً. وهذا يعني أن العمل يسير بتفويض كبير وواسع للإدارة التنفيذية وطاقمها. نعم يمكن لأعضاء المجلس أي تكون لهم أدوار في لجان منبثقة عن المجلس وذات اختصاصات وتفويض محدد. إذا كان الأمر كذلك، أي، اجتماعاتنا قليلة لكن مسؤوليتنا كبيرة أمام المجتمع والجمعية العمومية التي هي السلطة الأعلى في منظومة الجمعيات، وأمام مستحقي الخدمات ضمن نطاق عمل جمعياتنا، فكيف السبيل للقيام بما يلزم دون الرجوع للماضي وتقمص أدوار تنفيذية ودون التدخل في يوميات عمل الإدارة التنفيذية؟ برأيي، هذا السؤال مفتاح للتغير المنتظر في الجمعيات للقفز لمستويات أداء أعلى. إن عملية إصدار وتشارك تقارير ذات مصداقية وجودة عالية ومركزة، هذه العملية هي بوابة الخروج من المأزق. وغاية اجتماعات مجالس الإدارة هي أن تنجح فيما هو منتظر منها: صناعة قرارات. إن الوظيفة الجوهرية لمجالس الإدارات هي: صناعة القرارات. ليس أي قرارات بل أمهات المسائل والمحددات الكبرى التي ترسم وتمهد وتنشط بقية المنظومة وتملأها حماساً للعمل والاجتهاد.
يجب أن تتم عمليات تنمية إدارية داخلية حقيقية لكي تتمكن الجمعيات من دورها التنموي خارج أسوارها
يجب أن نعي ما هو ثمن تحقق تلك العملية (إصدار التقارير) وهذه الوظيفة (صناعة القرارات) وبعد أن نعي الثمن، نتشجع لدفع الثمن. وأخيراً وليس الأقل أهمية، لدينا عامل رئيس يضمن سير العمل بقيادة الإدارات التنفيذية وطواقم العمل فيها دون الاعتمادية على الأخ الأكبر (مجلس الإدارة): أدلة السياسات والإجراءات. كم جمعية لديها مثل هذه الأدلة وكم هي شاملة؟ حتى لا تتبدل طرق العمل بتبدل الموظفين في الخطوط الأمامية ولا بتبدل المدراء التنفيذيين ولا حتى بتبدل مجالس الإدارة! فلتكنْ الجمعيات ذات طبائع احترافية ومهنية ناتجة عن نظام عمل مكتوب عابر للأزمنة!
وإن لمْ تكن كل هذه المسائل هي هموم مجالس الإدارة ثم هي انجازاتهم، إذن ما همومهم؟
وعدت نفسي ألا أسهب في الإجابات، لأنني أعرف أنني أكتب لمن هم أعلم مني بتفاصيل الإجابات. “رُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه”. نعم، قد نفقه كثيراً عما يجب فعله. جوهر الأمر: أن نفعل ما يجب.
الحلقة السابقة