فيديو] من “القشورية” و “الصِّدِّين”.. حُمِل الماء إلى بيوت الأثرياء نقل الحمير "التنكات".. ونوديَ في الأسواق "ماء اقْشوري"

شاهد الفيديو

القطيف: معصومة المقرقش

تصوير : جمال أبو الرحي

على كثرة ما كان في القطيف من عيون ماء؛ لم تكن كلّها بمستوى واحد من العذوبة، بعضها أعذب من بعضها، وبعضها لا يُشرب ماؤها ولا يُطهى به، بل يُكتفى به ريّاً للبساتين والمزارع. والسبب يعود إلى طعم ملوحة، أو طعم مرارة.

لكنّ هناك عيوناً؛ كان يُطلب ماؤها ولو من مسافات بعيدة، أو حتى خارج منطقة السكن. ويُحمل ماؤها في صفائح على الحمير، لتذهب إلى بيوتات الأغنياء والتجار والسادة وعلية القوم، بشكلٍ يومي بذات الكمية والتوقيت دون تأخير أو تكاسل.

والمياه العذبة تلك، كانت مطلباً مخصوصاً لتلك العوائل الثرية التي كانت تُروّى من أشهر عيون محافظة القطيف مثل عين القشورية وعين الصِّدِّين؛ حتى أن تلك المياه أصبحت مضرباً للأمثال ومطلباً للتجار الغرباء كذلك..

وعين القشورية أو كما تُنطق باللهجة الدارجة الكشورية تقع جغرافياً في الشمال الشرقي من قرية الجارودية أي بين منطقة الجارودية والخويلدية وحلة محيش، وتتوسط النخيل، وبجانبها عينان أخريان كذلك هما عين السيد، وعين الرفيعات.

ماء قشوري

القشورية عين نباعة أي عين سيح دائرية الشكل كبقية العيون، وتعدُّ من أشهر العيون في محافظة القطيف، لا بمساحتها، وحجمها وإنما بما عرُف عنها بعذوبة مائها وصفائه، حيث تسقي النخيل والبساتين حواليها، كما تسقي التجار الغرباء القادمين للمنطقة وعلية القوم، وكبار الشخصيات في ذلك الزمان.

سعيد الصناع

وطبقاً لاختصاصي الآثار سعيد الصنّاع فإن أهالي قرية الجارودية كانوا يشربون من مائها لعذوبته الذي لا يضاهيه أي ماء عين أخرى ماعدا عين الصدين التي تميزت هي الأخرى بعذوبة مائها.

ويقول الصّناع إنّ التجار الأغنياء والوجهاء اعتادوا أن يسقوا رحالهم من هذه العين بالذات دون غيرها؛ حيث كانوا يستأجرون الروائين -السقائين- لجلب الماء منها في  محط رحالهم، كما كان السقاؤون ينادون في الأسواق والطرقات “ماء قشوري”..!

أشهر السقائين

ولعذوبة ماء القشورية جعلته مطلباً لأهل القلعة بالقطيف قديماً؛ حيث كانوا يستأجرون سقاءً لجلب الماء لبيوتهم في صفائح من التنك، وفقاً لمنصور المدن أحد أهالي قرية الجارودية الذي عاصر جزءاً من حياة العين قبل نضوبها كما يعدُّ أحد أعمامه، وهو المرحوم صالح عبد الله المدن أشهر سقائي العين، وكان عمل مدة من الزمن في سقي بيوت في القلعة بشكلٍ خاص بماء القشورية، حتى تراجع مستوى مائها.

عذبة خطيرة

وكانت العين ـ كما يقول المدن ـ مكاناً مفضلاً لترفيه الشباب الذي يقضون أوقات الحر اللاهب فيها، كما كانوا يتسابقون في ألعاب القفز من على سطح المسجد إلى قاع العين، وعلى الرغم من عذوبة مائها وصفائه ألا أنها أخذت أرواحاً كثيرة من الناس، وذلك لوجود (إلحوف) فيها بكثرة، فعندما يقفز أحدهم لقاعها ولم يخرج على ذات الخط يدخل على الفور داخل اللحف، يغيب نفسه ويتوفى سريعاً، وسبق أن توفيت سيدة من القرية، وشاب صغير كذلك من ذات السبب.

إلحوف = مصائد

وإلحوف من اللحف وهو مكامن (مصائد على شكل حفر) تتكون في جدران العين تحت الماء وبسبب تحرك بعض المواد الصلبة تتشكل هذه المصائد، وتكون مغلقة تماماً، فعندما يمر عليها السباح ويقف عليها ينهدم منها جزءٌ وتعلق رجلاه فيها، فلا يستطيع الخلاص حتى تنقطع أنفاسه فيموت غرقاً.

أسطورة إلحوف

وأهالي القرية شأنهم شأن القرى الأخرى المجاورة اعتقدوا قديماً أن هذه اللحوف ما هي إلا أيادي صاحبة العين التي توظفها على شكل لحوف لتمسك بالسباح – القربان- حتى يغرق.

أوقات العين

وخصص للعين كذلك أوقات للسباحة فيها للرجال والنساء على السواء، حيث خصصت فترة العصر للنساء يغتسلنّ ويسبحنّ فيها حتى زوال الشمس، والرجال ينتظرونهنّ خلف الجدران حتى خروج آخر سيدة منها للدخول، كما كان للعين مسجد باسم عين القشورية، سقط نصفه الجنوبي في العين منذ أكثر من خمسين عاماً تقريباً.

منصور آل مدن

غسالة المعاريس

ولأنها محبوبة من قبل أهالي القرية والقرى المجاورة لها كانت ملاذاً لاستحمام العرسان من الشباب ليس من القرية فقط، بل من أنحاء محافظة القطيف.

توثيق ملون

ويقول منصور المدن إن لديه صورة وحيدة للعين يعود عمرها لأكثر من 45 عاماً، وهذه الصورة صورها أخوه حسن بكاميرا عادية كانت منتشرة في ذلك الوقت، وهي ملونة تظهر فيها تفاصيل المسجد الذي سقط جزءاً منه والعين.

أحياء العين

وقبل عشر سنوات حاول أهل القرية إعادة إنعاش بعض عيون محافظة القطيف، ومنها عين القشورية، ونظموا حملة كبيرة لتنظيفها، لكن لم يجدوا فيها روحاً تنبض بالماء إلا نبضاً ضعيفاً، فقد ركد ماؤها منذ سنوات، ونبتت فيها الحشائش، الأمر الذي جعل بلدية المحافظة تقوم بتسويرها، لكن لا يزال أهل المزارع يستخدمونها من خلال سحب ماء منها بواسطة المضخات.

مكان عين الصدين الحالي موقف سيارات والمسجد ما زال باسم مسجد العين

عين الصِّدِّين

أما عن العين الأخرى المنافسة لعين القشورية في عذوبة مائها فهي عين الصدين التي تقع في الجهة الغربية إلى الشمال من قرية الجارودية، داخل مسورة القرية، وهي عين نباعة أي عين سيح.

ولعين الصدّين قناة مياه واحده فقط تُعرف محلياً بـ”الساقية” أو “الشُرب”، وتقع في الجهة الشرقية الشمالية، ونبعها ـ وفقاً للخبير الزراعي مكي وهيب ـ يقع في الجهة الغربية من العين، ولا يتعدى عمقها 7 أمتار، ويسقى ماء هذه العين بستاتين الشمالية، كالعمارة، الحرة، الطف، الجارودية، ام خصاب العصفور، ام عريشات، ولها قسمان قسم للنساء وآخر للرجال.

مكي وهيب

شريان الجارودية

ويقول وهيب إنّ العين كانت شريان حياة رئيسياً لقرية الجارودية، فكان يُجلب منها الماء العذب إلى المنازل لاستعمالات الشرب والأغراض المنزلية، فضلاً عن كونها مكاناً لاستحمامهم وترفيههم، مشيراً إلى ما كانت عليه القرية المسورة بسورٍ منيع كالحصن تماماً، وللسور بوابتان، إحداهما شرقية وأخرى غربية وعلى كل بوابة حارسان، ولها من الأبراج 4 وعلى كل برج يقف عليه حارس أيضاً، ناهيك عن الدوريات الأخرى التي تحرس القرية داخل السور، وإذا أغلقت القرية أبوابها عليها يوماً لم يخرج ماء عينها لغيرها إطلاقاً، مكتفية عن حاجتها من القرى المجاورة.

المسجد الدليل

وبجانب العين يقع مسجد يسمى مسجد العين، وهو من أقدم المساجد داخل القرية وجُدد بناؤه عدة مرات، وهو باقٍ لليوم دليلاً على وجود  تلك العين، كما كانت المفضلة لعلية القوم ولأهل القلعة كذلك شأنها شأن عين القشورية كما يقول الحاج منصور المدن.

ماء مطافي

وساهمت مياه عين الصدين في إطفاء حريق اندلع في القرية عام 1385 هجرية، وعلى إثره احترقت القرية ولم يبقَ منها أي منزلٍ صالح للعيش كونها منازل بنيت من جريد النخيل سريع الاشتعال، وأطفئت نيرانها المشتعلة من ماء العين، ويذكر فضلها كبار السن في هذا الشأن.

أقوى العيون

أما اختصاصي الآثار سعيد الصنّاع فيقول إن العين كانت في الماضي تسقي النخيل والبساتين التي حولها ومنها مزارع حلة محيش، وهي من أعذب مياه عيون القطيف وكانت سابقاً يُروي منها أهل القرية كذلك، ويشير إلى أنها من أقوى العيون دفعاً وتصل مياهها إلى البحر، وشكلها كبقية عيون القطيف، ولكن لم يبقَ منها اليوم إلا ذكرياتها فقط؛ فقد جف ماؤها وردمت ولا أثر لها.

 

عين القشورية

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×