إبراهيم.. أدمن المخدرات وتعافى ومازال يردد: ماذا لو كان لي أب؟ عاش يتيماً ومشرداً فتلقفه رفاق السوء

القطيف: ياسمين الدرورة

في بيت غادرته السكينة والاستقرار وخيّم عليه القهر والحرمان فتح إبراهيم عينيه، وما كاد يدرج صبياً حتى تركت العصا آثارها على جسده الغض، لكنه لم يكن وحده عرضة لضربات العصا الحارقة، فقد تقاسم مذعنا ذلك الوجع مع أخوته، وغالبا ما كانت أمه تتلقى الضربات وهي في سبيلها لإبعادهم عن وجه والدهم الغاضب، الحانق دائماً.

كبر إبراهيم فقيراً وعائله مقتدر، ونشأ يتيماً في حياة أبيه، وعاش مشرداً مطروداً من بيت العائلة ولم يتجاوز سني المراهقة الأولى، كل تلك الظروف فتحت له دروب الشيطان والانحراف على مصاريعها، فخاض دون ميزان في وحل المخدرات.

قصة إبراهيم نموذج للطريق الأسرع إلى الهاوية، وفي تفاصيلها أكثر من غصة أثرت في فؤاد كل من استمع إليها.

أنجبت أم إبراهيم 6 من البنات والبنين، وكان إبراهيم أكبرهم وأجملهم، طفل بوجه ملائكي، يشبه أمه في صفاتها الخُلقية والخَلقية، ذو بشرة بيضاء وشعر أشقر وطبع هادئ ومسالم.

ورغم جمال أم إبراهيم اللافت وطيبتها الشديدة وهدوء طبعها إلا أن أبا أبراهيم لم يحبها يوما، ولم يجد فيها ما يملأ عينيه، لذا كان الزواج بأخرى مسألة وقت.

الزواج الثاني

ذات يوم أخبر أبو إبراهيم أمه وأخوته أنه عازم على الزواج بأخرى، وحين سألوه عن السبب سرد قائمة طويلة من المبررات، ليقنع بها سائليه وإن لم تكن صحيحة. فتزوج لأن امرأته مقصرة، حسب روايته، وتزوج لأن أبناءه عاصون وعاقّون، رغم أنهم ما زالوا أطفالاً، لكن وكما يقول المثل الغرض مرض.

وبعد الزواج سقطت ورقة التوت التي كانت تستر أبا إبراهيم، فالرجل الذي طالما أحب أن يظهر للناس بمظهر المتدين الخلوق الملتزم لم يستطع أن يطبق العدالة في أبسط صورها الشكلية، فحتى المبيت عند زوجته الأولى كان يفعله في بداية أيام زواجه بالثانية مراءاة فقط، فكان ينام في مجلسه عوضاً عن مخدع الزوجية، هاجراً لأم أبنائه، وما لبث أن طال الهجر حتى أولاده الصغار.

لا تزعجوه

لا يتذكر أبناؤه الستة إلإ أنهم من صلبه ثم لا شئ سوى العصا التي كانت بيده، وحدة طبعه وخشونته وكثرت سبابه وشتائمه وكأنهم كانوا خصوماً له.

خاصة إذا طلبت والدتهم شيئاً من احتياجات البيت، عندها تقوم قيامته، فكان يغضب من طلباتها الثقيلة المزعجة التي لا تنتهي، حسب زعمه، فينهرها أمام أطفالها ويزيد.

أما الصغار فكانوا يرتعشون خوفاً منه كلما عاد إلى البيت، ولا يأمنون نوبات سخطه على أتفه الأسباب، فيشبع غليله بضربهم، ولا ينفك جتى تتدخل والدتهم لتحول بينه وبينهم وتدفعهم بعيداً عنه، وطالما تساءلوا: لماذا أبونا يضربنا بقسوة؟، فتتعثر الردود على لسان أمهم، ولا تجد ما تقوله للصغار سوى إن “والدكم رجل عصبي، لا تزعجوه وحسب”.

كبر إبراهيم ودخل سني مراهقته الأولى، بدأ يشعر بأنه رجل وأن من واجبه حماية أمه، فلم تكن تعجبه معاملة أبيه القاسية لوالدته فتصدى له ذات مرة، وعبّر عن غضبه، لكن الأب لم يحتمل أن يقف الصغير قبالته وإن كان ليحجزه عن ضرب أمه، فطرده من المنزل ليتأدب.

هام إبراهيم على وجهه في الطرقات نهاراً ثم يأوي إلى مسجد، في طور التشيد، ليلاً، يفترش الأرض الصلبة ويتغطى بأمله في عفو والده.

كان أخوته يعطونه ما استطاعوا أن يدّخروه من مصروفهم اليومي دون علم والدهم، حتى إذا جاع أو عطش يشتري ما يسد به رمقه ويروي ظمأه.

احترق قلب أمه وودع النوم جفنيها في كل ليلة لا يبات فلذة كبدها تحت عينيها، كانت تنتحب باكية بحرقة وتتحسب على زوجها “إن لم يعد إبني سالمًا فلا سامحك الله”.

وكثيراً ما تلبس عباءتها وتخرج ممسكة أحد أخوته وتسير في الشوارع الخالية إلإ من الكلاب الضالة تبحث عنه حتى تجده وتعود به.

هكذا شب إبراهيم موزعاً بين البيت والشارع، لا يلبث أن يعود المنزل حتى يطرد منه، فلما كبر أصبح هو الذي يهرب من البيت الذي لا يسمع فيه إلا صراخ وزمجرة أبيه، باحثًا عن الهدوء وشئ من الفرح.

تعرف على صبية يحبون المتعة والمغامرة، فرح بصحبتهم ،أراد أن يستكشف عالمهم، ويختبر حياة جديدة لا يكون لأبيه أثر فيها، فبدأ يتهرب من المدرسة، حتى تدنى مستواه الدراسي، وحصد نتيجة ذلك بأن تخرج من الثانوية بمجموع مهزوز وضعيف لا يؤهله لطرق دروب التعليم الجامعي.

وكانت لحظة جني ثمار التحصيل الدراسي مؤلمة لإبراهيم، لم يكن يفكر في مستقبله، أما الآن فعليه مواجهة الواقع، ماذا سيصنع بهذا المجموع؟، وكيف عليه أن يمضي في حياته؟.

الصورة من الأرشيف ولا تمت للحدث بصلة

فراق الصديق

وفي ليلة غادرها السلام، تعرض صديقاه لحادث مروع، وهما يركبان دراجة نارية، فخطف الموت أحدهما، وترك الآخر مصاباً، لم يصدق إبراهيم ما جرى لصاحبه، وبقي حزيناً مفطور القلب.

كانت صدمة الفراق أقوى من أن يتخطاها لوحده، فكان يجلس عند أمه يسند رأسه على كتفها ويبكي، قال لها ذات مرة “أماه أريد علاجًا كي أنسى، خذيني إلى طبيب يشفي الألم الذي بصدري، قلبي يوجعني بشدة”.

اعتصر الألم قلب الأم لكلماته، فما زال صغيراً على هذا الوجع، مسحت على رأسه وصدره وتلت عليه بعض الآيات لتهدأته “سيشفيك الله يابني، لا تحتاج إلى دواء أنا وأخوتك معك”.

كانت كلماتها الحانية بلسماً للجرح وشفاءً للوجع.

الحراسات الأمنية والمخدرات

لم يلبث أن وجد إبراهيم عملًا في الحراسات الليلية، وبعد أن استقرت أوضاعه، اختارت له والدته زوجًا هي ابنة خاله التي أحبها وأحبته، فتزوجا وأثمر زواجهما عن ثلاث زهرات،

كانت حياتهما تبدو على ما يرام إلإ أن باطن الأمور ليست دائماً كَظاهرها، والرفقة السيئة لابد أن تلقي بظلالها السوداء، فبدأ إبراهيم بتعاطي الكابتجون “أبو ملف”، ومع مرور الوقت تورط في أنواع أخرى أشد خطورة حتى وصل إلى الشبو.

وليس غريباً أن تكثر مشاكله الزوجية، لكن زوجته تفاجأت بالتغيير الذي حلّ به، ولم تجد مبرراً لذلك، وظن أهله أنه يمر بضائقة مالية خاصة أنه بدأ يطلب المال في الآونة الأخيرة.

ومع مرور الوقت أصبح عنيفًا كثير الصراخ، حتى صغيراته خفن منه، أما الحبيبة والزوجة فلم تعد تطيق العيش معه، وكثيرًا ما ذهبت إلى بيت أهلها لتجنب العراك معه.

تكشف الحقائق

ذات ليلة غاب عن منزله فاتصلت الزوجة بأخوته قلقةً وأعلمتهم أنه لم يعد إلى المنزل لأكثر من يوم، فخرجوا مسرعين يبحثون عنه في الشوارع والمستشفيات وفي كل مركز أمن لكنهم لم يعثروا عليه، وبعد التقصي أخبرهم أحد رجال الشرطة أنه موقوف في دائرة مكافحة المخدرات لحيازته كمية من المخدرات قال إنها للاستخدام الشخصي، فذهبوا إليه ودفعوا مبلغ الكفالة وأخرجوه، وحين علمت والدته طلبت من أخوته أخذه للعلاج ولما فعلوا ذلك رفض المكوث داخل المستشفى، ووعدهم بأخذ العلاج.

ملاحقة قانونية

سجن بعدها شهرين لحيازته مواد مخدرة، واستمر بعد خروجه في التعاطي خفيةً مدة ليست باليسيرة كما ازدادت حالة هيجانه ووصلت به الأمور إلى تهديد أهله بالقتل والحرق، فبلغوا عليه الشرطة خوفاً من أن ينفذ تهديداته.

أتت سيارات الأمن لأخذه فلم يجدوه، انتظروه حتى عاد وبعد دخوله داهموا المنزل، وما إن سمع طلبهم بتسليم نفسه حتى احتضن والدته وأخذ يرتعش ويبكي، دس رأسه في صدرها كطفل صغير فبكت أمه وأخوته حتى احمرت عيونهم من الدموع.

أخذه رجال الأمن وهو يصرخ “أمي أرجوك سامحيني لم أقصد إيذاءكم”، قيدوا يديه خلف ظهره وخرج محني الرأس خجلًا مكسورًا مسلوب الحرية، وبعدها حكم عليه بالسجن مدة عام بتهمة التعاطي والعقوق.

عطب في خلايا الدماغ

وفي السجن كان العلاج هو قراره الأول، فكابد آلام الأعراض الإنسحابية، ومرارة العلاج وصعوبته، ودخل بعدها في صراع نفسي، وبين رغبته وإرادته دارت المعركة، فكانت الأفكار السيئة تخالجه، والرغبة في الخلاص تدعوه إلى الانتحار وإنهاء حياته لولا طول صبره وقوة إرادته.

شفي إبراهيم قبل أن يخرج من السجن، لكن بعض الأعراض ما زالت تذكره بما ارتكبه في حق نفسه، فطريقة كلامه تبدو وكأنه ابتلع شريط تسجيل مسرّع تساقطت منه بعض الحروف، والتصقت أخرى بعضها البعض، كما لازمته بعض الحركات اللارادية في عينه وأنفه والرعشة التي لا يتمكن من إخفائها، وعن كل ذلك قال الطبيب أنها لن تزول لأن بعض خلايا الدماغ قد أصابها العطب، كما أوضح أن التعافي التام قد يستغرق سنتين.

ماذا لو كان لي أب؟

قرت عين والدته بعودته لبيته وزوجته سالماً معافى، أخيراً عاد إبراهيم حرا من كل القيود، حراً من قيود السجن وجدرانه، وحراً من قيود المخدرات، كان كل ليلة يُجلس بناته في حجره يقبل رؤوسهن ويطبع قبلاته على أيديهن قبل أن يخلدن للنوم، يجلس بجوارهن ويمرر يده بين خصلات شعرهن حتى ينمن باطمئنان ويقول في خاطره “كما كانت تفعل أمي”.

اكتفى إبراهيم بأسرته الصغيرة وغاب عن أعين الناس، حتى أنه رفض العمل في أي شئ، وبقى مشغولًا ببناته.

يعيش وينفق من مبلغ الدعم الحكومي من مكتب الضمان كونه معيل بلا عمل.

وكثيراً ما فكر بينه وبين نفسه “ماذا لو كان لي أب؟ ماذا لو دفعني للدراسة وشجعني؟ ماذا لو جعل مني رجلاً وافتخر بي؟

لكنه سرعان ما يجيب على تساؤلاته.. لقد تخلى عني وأخوتي وهجر أمي، وتركني أصارع الحياة وحيدًا، لم يعلّمني شيئاً ولم يشاطرني عطفه ولا حكمته، ولا حتى تدينه الذي طالما تظاهر به.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×