قلبُ أبي
قصة: عبدالله النصر
- كن متأكداً أنه لا يُقاس الحب بما ينزف من الكلام، فهناك حب غائر إلا أنه شديد الصمت، يُعلن في حينه!!
لا أدري لم في كل آن أخرجها من الخزانة القديمة، أقلبها، واتفحصها لبضع دقائق، فأعيدها أدراجها؟!.. هي أطول مني، وثلث وزني، لها قاعدة خشبية أعرض من كفيّ، يديّ أنعم من ملمسها، ولها أنبوب طويل، يثبتهما قطعة حديدة تخترق جوفها حلقة يتوسطها لسان معطوف إلى الأمام قليلاً. يوازي الأنبوب أنبوب آخر أنحف وأقصر منه محشو بطنه بسيخ أكثر منه طولاً، رأسه مدبب وأخمصه معقوف..
بغرابة تشدني هذه الآلة السمراء الأثريّة، تسحر طفولتي، أحاول اكتشاف ماهيتها، وكيف تستخدم.. سألت أمي، فأجابت:
– لا أعلم، فقط عدها إلى مكانها.
ذهبت إلى أبي للاستفهام منه، كانت المرة الأولى، نتلها من يدي بسَخِط، واغْتياظ، وقال بشراسة:
– كيف عثرت عليها؟.. ها؟!
– إن اقتربت منها مجدداً، فلسوف أذبحك!.
سألت أمي بغرابة شديدة:
– هل هي قيمة إلى هذا الحد الذي يجعله يثور هكذا فيضاهي بها حياتي؟!!
ـ ليست أغلى منك يا بني، لكن كلامه مجرد إيضاح لقيمتها الكبيرة عنده، وكل أشيائه القديمة التي يحتفظ بها في الخزانة غالية جداً، فلا تمسها.
ولم أكف، فكلما شعرت بالرغبة إليها بحذر، بخوف استغللت عدم وجوده في المنزل، واستغفلت أمي، وأخذتها، حتى تعرفت عليها وفهمت كيف تستخدم قليلاً، فوددت لو أطلق منها رشقة نار، أثناء اختبائي بها في سطح بيتنا.
عبثا حشوتُ فوهتها بمسحوق الثقاب، سحبتُ السيخ، دسستُ المسحوق في أحشائها بهدوء، نصبتُ المدق الصغير فوقها، نصبتُ مؤخرة خشبتها على صدري، صوبتها نحو الجدار الكبير لبيتنا الطيني، وضعت أصبعي على المفتاح، ضغطته دون مهابة ولا رهبة.. فلم يحصل شيء!!.. تفحصتها، أعدت الكرة مراراً، فلم أنجح، بل أن قطعتها الحديدية العلوية انفرطت على أصبعي الصغير وجرحته، فاضطررت إخبار أمي.. فارتسمت على وجهها ملامح العبوس والانفعال، وقالت:
– تستحق، أنت ولد عنيد لا تتوب.
– ألا تذكر كيف كانت ردة فعل أبيك الكبيرة؟!
– سيعاقبنا سويا هذه المرة لو علم.
– ثم إن المادة التي استعملتها ليست هي التي تعمل بها، كما أنها تالفة صدئة.
– عدها، ولا تعبث بها مجدداً.
أبي كما يتكتم على أشيائه القيمة القديمة ويحتفظ بها لنفسه، كذلك كان يفعل مع مجمل أحداث حياته، لكننا نشعر أن لها فعل متعب على نفسه وروحه، يجلس مضغوطاً كقدر محكم الإغلاق وضع على نار شرسة، وبالكاد ينطق بكلمة في الاضطرار فقط، وينفجر لمجرد محاولة فتح أبواب حياته الموصدة، من كل الناس ومعهم، وحتى من والدتي التي يحبها حباً جماً، ولكن ما يدهش أن هذا الحب سرعان ما يختبئ فيحل محله جمر الغضى يحرقها به فيما لو خالفته أو أخطأت عملاً، ثم ما يلبث الحب أن يطفو باعتذاره لها في الهدأة والسكون ويعانقها وينسى. أما معي فأشعر بأنه يبقى شديد البأس غاضباً ويراكم الغضب في دهاليزه لأي فعل عفوي بسيط، وما أن تحين الفرصة حتى يصبها حمماً على جسدي وروحي، حتى أنني كثيراً ما أسأل أمي:
– لماذا يفعل معي هذا وأنا ابنه الوحيد الذي سأحمل أسمه كما يردد!؟!
تفرش على شفتيها ابتسامة محترقة بفعل النار التي تشتعل في أحشائها، فتقول:
– لكنه يحبك كثيراً، يا بني.
أزدد حيرة وذهولاً، فما يفعله معي يؤكد لي غير ما تقول.
أدخلني المدرسة متأخراً سنتين بإلحاح منهك من أمي، موافقته مشروطة بأن مجرد أن أعود من المدرسة وأتناول الغداء سريعاً أذهب إليه إلى النخيل للعمل معه وعليّ ألا أعود إلا بعد أن يخضب الليل الموجودات بسواده القاتم، وافقتْ أمي على مضض وصارت تدفعني إلى المدرسة بالمحفزات والتهديد خوفاً من توقفي فلا يتركني أكمل التعليم.
أتبعه كفصيل الناقة إلى النخيل، وهناك يجعلني أعمل كرجل تعدى عمره العشرين على الأقل، كل أعمال الفلاحة كانت منهكة شاقة وبعضها خطرة كصعود النخيل السامقة الأملس ساقها لزوال لحائها، ولو امتنعت أو شكوت أو تقاعست نهرني ونهر من ولدتني أو ضربني ضرباً مبرحاً بلا رحمة، والسؤال ذاته يتردد في زوايا نفسي:
– لماذا يفعل معي هذا وأنا ابنه الوحيد!؟!
أرافقه دون أن أؤدي فروض المدرسة التي أؤجلها إلى وقت الليل، وربما لا أؤديها بسبب الانهاك والكسل والنعاس أو لم أعرف أجابتها لعدم استيعابي الدرس، ولم يكن معي من يساندني فيها ويستذكرها لي، فأمي غير متعلمة مثل أبي، وممنوع علي مصادقة أو رفقة أحد الصبية خارج البيت، كما يمنعني من اللعب وأترابي. وفي اليوم التالي أذهب إلى المدرسة فيعاقبني المعلمون بالضرب المبرح لكسلي ولعدم تأدية الفروض ولعدم المشاركة والكتابة الصحيحة وغيرها، فأذهب شاكياً لأمي، فتحتضنني عطفاً وشفقة ورحمة، وأبدي لها أمنيتي (لو أني لا أذهب إلى المدرسة)، فتهددني بأبي الذي إن علم بما في نفسي أو بما يجرى في المدرسة معي، فلسوف يقتلني ضرباً يكمل ما نقص.
تحملت عذابات السنين، حتى صار عمري تسعة عشر، بالكاد تخطيت السادس الابتدائي لكثرة الرسوب الذي أتلقى لقاءه الضرب المبرح أيضاً والتهديد بإخراجي من المدرسة والعمل فقط في النخيل، بل صار عقلي يغرق في الركود والكسل والقهقرة وعدم الاستيعاب.
لكن فجأة، خطر ببالي أن أتمرد، قوي عودي لمواجهته، فقلت له منتصباً كغصن بري فارع، وبصوت جريء عال:
– لن أكمل الدراسة ولن أذهب للعمل معك.
– سأسافر إلى المدينة للبحث عن عمل.
فانْفَعَل اِنْفِعالًا شديدًا، وثارت ثائرته، وبخني وشتمني، بل راح يركلني ويضربني بعرجون النخل القديم ثم سحبني من ذراعي إلى باب البيت الخارجي، وطردني من البيت.
– لماذا يا أبي، لقد قلت لك أني أريد الاستغلال والاعتماد على نفسي وتحسين معيشتنا.
في اليوم التالي، عاد من عمله في الحقول الزراعية، فلحظ ما لم تلحظه أمي، غرفة نومه مقلوبة رأساً على عقب، بما فيها تلك الخزانة، رآها فارغة من محتوياتها الأثريّة القديمة القيمة، زهقت نفسه، فصار يزبد ويرعد ويهدد، ولو أمي المتفاجئة المندهشة بقيت أمامه أو تفوهت بكلمة لركلها كما يركل الأشياء والحيطان:
– سأقتله، سأمحوه من الوجود لو ظفرت به.
تفوه بهذا بمسمع من أمي المفجوعة، وهو قطعاً متأكد بأنه لا أحد سواي سرقها، فأنا أثناء مواجهته طلبت منه المال للسفر، فقال بصوت عال فظ خشن:
– أخرج من بيتي فلا شيء أعطيك إياه.
ولذا في هذا صباح اليوم التالي، تسللت إلى البيت في غفلة من أمي، قلبتُ أثاث غرفتها بحثاً عن مال، لم أجد، فعمدت إلى إفراغ تلك الخزانة في كيس من الخيش، وحملت تلك البندقية التي جرحت أصبعي، وبعتها جميعاً لمهمة السفر والعمل، ثم اختفيت.
عدت بعد شهرين على تخوف جم من ردة فعل أبي، أخبرت أمي بأني وُظفتُ في إحدى الشركات، براتب جيد، وبدورها أخبرت والدي بينما يملأها الخوف والوجل، إلا أنه نطق بهدوء تام، مشيحاً بوجهه:
– أصلحه الله ووفقه.
٢٨ أبريل ٢٠٢٤م