صديقي البخيل وقلاع القناعات

علي الشيخ أحمد

في تلك الأمسية الهادئة، عندما بدأت الشمس تلملم أشعتها الأخيرة، جلسنا في إحدى المزارع. صوت الهواء اللطيف يحرك أوراق الأشجار كان يرافقنا بصمت.

كنت مع أحد معارفي، رجل يكبرني سناً.  ومعروف عنه أنه رجل متحفظ جدًا في صرف المال، ولم أكن متأكدًا إن كان مجرد شخص حريص على المال أم يعاني من مرض البخل.

بدا وجهه متجهمًا بعض الشيء كعادته عندما طرحت عليه سؤالاً استدراجياً، ربما لأنه لم يكن معتادًا الأحاديث الغريبة، أو ربما لأني دخلت مباشرة في موضوع لم يتوقعه.

“هل سمعت عن التأمل الذهني ؟”

بدأت الحديث مبتسمًا.

رفع حاجبيه قليلاً، وكانت تلك علامة على أنه لم يسمع بهذا الاسم من قبل.

فأضفت، “إنه ممارسة تساعد الإنسان على الوصول إلى حالة من الهدوء والتوازن النفسي. يقال إن الأشخاص الذين يمارسون التأمل يصبحون أقل تعلقًا بالأشياء المادية مثل المال، ويشعرون بحرية داخلية أكبر”.

هنا؛ اعتدل في جلسته. وبدا عليه الاهتمام، لكنه لم يتكلم.

فأضفت: “يقال إن التأمل يأخذ المرء في رحلة عميقة داخل عقله، تساعده على مواجهة مخاوفه القديمة وحتى تخفيف تلك الأوجاع النفسية العميقة التي تلاحقه منذ الطفولة المبكرة.”

في تلك اللحظة، كان وجهه بدأ يعكس فضولًا لم أره فيه من قبل.

قال وهو يميل للأمام قليلاً: “حقًا؟ وهل جرّبت الـتأمل الذهني بنفسك؟ يبدو أنها ممارسة مفيدة فعلا”.

ابتسمت متجاهلا سؤاله، وقررت أن أكمل استدراجي له قليلاً، فقلت: “هناك شيء آخر مهم. يقال أيضا هو أن التأمل يخفف من التعلق بالأشياء المادية، مثل المال. فمن يمارسه بانتظام يشعر بالتحرر من هذه القيود. فيمكن أن يتبرع للفقراء والمحتاجين دون مقاومة نفسية. هل تتخيل نفسك تعيش دون تلك المخاوف المالية وتصرف المال دون تردد؟”

تغيرت ملامحه فجأة. وكأنني فجّرت بركانًا داخله.

قاطعني بغضب: “لا، هذه ممارسة غير جيدة ولا أريد أن أمارسها إذًا!”

صوته كان صارمًا، وحركاته باتت متوترة، وكأن فكرة التخلي عن المال أصابته في عمق نفسيته.

بدا لي في تلك اللحظة أن الحوار لم يكن حول مجرد التأمل. كشفت لي ردة فعله شيئًا أعمق بكثير عن علاقته بالمال. كان المال بالنسبة له أكثر من مجرد وسيلة. كان درعًا نفسيًا يحميه من شعور بفراغ داخلي.

أكملت التفكير بينما كانت أصوات الليل تتسلل حولي خلال أشجار المزرعة. مثل كثيرين منا، كان صديقي يبرر سلوكه دائمًا بحجة الاقتصاد والحكمة، لكنه بدا واضحًا أن خوفه من فقدان المال لم يكن مجرد تدبير مالي. كان خوفًا عميقًا من المجهول وعدم الأمان.

تظهر لنا مثل هذه الحوارات أن قناعاتنا الحياتية لا تتكون في فراغ. بل هي نتيجة لمزيج من الأفكار المنطقية والتجارب الحياتية والحاجات النفسية التي تشكل نظامًا دفاعيًا يقي الفرد من التوتر والخوف. ولكن بعض تلك الأنظمة، رغم فائدتها الظاهرة، قد تكون غير منطقية أو معيقة للنمو.

الأفكار التي نتبناها حول المال، أو حب السيطرة أو حب الظهور أو أي شيء آخر، لا تأتي من تحليل منطقي فقط، بل من تجارب مررنا بها شكلت رؤيتنا للعالم. من خلال هذا الحوار الصغير مع صديقي حول التأمل الذهني، أدركت أن قناعاتنا النفسية تتحكم بنا بطرق أعمق مما نعتقد، وأن أي تهديد مفاجئ لهذه القناعات الحياتية قد يولد ردود فعل قوية وغير متوقعة.

تابعت الأمسية متأملا بصمت، لكن الأفكار لم تتوقف عن الدوران في رأسي. كانت ملامحه الصارمة وسرعة انفعاله مفاتيح لفهم أعمق. كان كأن الحديث عن المال قد كشف عن جرح دفين في داخله، جرح ربما لم يكن مستعدًا لمواجهته أو حتى الاعتراف به.

أخذت رشفة من كوب الشاي بين يدي وقلت له بنبرة أخف: “لا بأس، أعتقد أن التأمل الذهني ليس مناسبًا للجميع. لكن، ألا تعتقد أننا أحيانًا نربط سعادتنا وأماننا بأشياء مادية، رغم أنها قد لا تكون بالضرورة ما نحتاجه فعلًا لنشعر بالراحة النفسية؟”

نظر إليّ مطولًا، وكأنه يحاول استيعاب ما قلته. لم يكن هناك أي رد فعل سريع هذه المرة. بدا وكأنه يحاول تمالك نفسه، لكن عينيه خانتاه، كانتا تحملان شيئًا من القلق العميق. “ربما… لا أعلم.” قالها بصوت منخفض، وكأنه يتحدث إلى نفسه أكثر مما كان يتحدث إلي.

معظم الناس لا يدركون أن قناعاتهم ليست مجرد أفكار عابرة، بل هي حصون تحميهم من مواجهة مشاعرهم الحقيقية. قناعاتنا الحياتية، غالبًا ما تكون نابعة من خوف عميق من فقدان الأمان أو من فجوات نفسية قديمة نحملها معنا. في تلك اللحظة، بدأت أفهم أن صديقي هذا لم يكن بخيلًا فقط، بل كان يعيش في ظل نظام نفسي متأصل يدعم المال استقراره، يحميه من قلقٍ أعمق قد يكون متجذرًا في تجارب سابقة.

قررت أن أخفف من حدة الحديث وأجعل النقاش أكثر استرخاءً. “حسنًا، لنترك موضوع التأمل الذهني. أخبرني، كيف كان يومك اليوم؟ “ابتسمت له وحاولت تحويل الحديث إلى مواضيع عادية. فرد ببرود: لا بأس. ثم وقف وغادر المزرعة.

جلست وحيداً. عقلي ظل عالقًا في تلك الفكرة. فكرة أن المال بالنسبة له لم يكن مجرد أداة، بل كان رمزًا للسيطرة والأمان. وفي هذه اللحظة، أدركت أنني ربما أخطأت في محاولة زعزعة هذا الركن الأساسي من حياته بسرعة.

المال وقناعاتنا المتعلقة به ليست مسألة مجردة. إنها قضية نفسية معقدة تتعلق بحاجات الإنسان الأساسية، كما أشار إليها عالم النفس ماسلو في هرم الاحتياجات. من خلال تجربتنا الحياتية، نكتسب معتقدات ومفاهيم حول العالم من حولنا، وهي غالبًا ما تكون نابعة من تجاربنا العاطفية والمخاوف التي نمر بها.

أدركت أن صديقي هذا لم يكن وحده في معركته مع المال. الكثيرون منا يعيشون في ظلال تلك القناعات الحياتية المتأصلة. فبعضهم يرى المال مصدراً للأمان، وبعضهم الآخر مصدراً للقوة أو السيطرة. وفي كلتا الحالتين، يصبح المال أكثر من مجرد وسيلة للعيش، بل هو جزء من هوية الفرد النفسية.

مع مرور الوقت تلك الليلة، بدأت أفكر في كيفية تأثير هذه القناعات الحياتية في حياتنا اليومية. كيف يمكن للقناعات التي نبنيها حول المال أو أي موضوع آخر أن تتحكم في سلوكياتنا وقراراتنا، وتجعلنا أحيانًا نخشى التغيير أو المواجهة. وهذه القناعات الحياتية ليست مجرد أفكار ذهنية، بل هي جزء من نظام دفاعي نفسي نستخدمه لحماية أنفسنا من المشاعر السلبية التي قد نواجهها إذا تخليّنا عن تلك القناعات.

تذكرت مقولة قديمة قرأتها في كتاب: ” The Power of Belief- قوة القناعات “,”الأفكار هي ليست مجرد أفكار فقط، بل هي أيضا قلاع تحمي شيئا داخلنا” وقد لا نعلم ما هو. بدأت أفهم الآن، بعد هذا الحوار الصغير، أن تلك القلاع ليست مجرد أبراج منطقية فقط، بل هي حصون مبنية من تجاربنا النفسية الخاصة، وكلما شعرنا بأن تلك الحصون تتعرض للخطر، زادت مقاومتنا للتغيير.

لم تكن هذه الأمسية القصيرة مجرد حوار عابر، بل كانت لحظة تعلمٍ عميقة. في عالمنا اليوم، نحتاج إلى أن نكون على وعي بأن قناعاتنا الحياتية التي نتمسك بها قد لا تكون دائمًا في صالحنا. بل قد تكون في بعض الأحيان سببًا في منعنا من النمو والتطور.

سألت نفسي بعد مغادرته الجلسة: كم من الأشخاص يعيشون حياتهم معلقين بقناعات قديمة عن أنفسهم أو عن الآخرين، فقط لأنهم يخشون مواجهة الحقيقة؟ كم من مرة يرفض الناس التغيير لأنهم يخافون من التنازل عن شيء يعتبرونه جزءًا من هويتهم؟

من المهم أن ندرك أن قناعاتنا الحياتية لا توجد عقليا في عزلة عن بعضها البعض، بل تتجمع في مجاميع عنقودية مترابطة. هذه المجاميع تشكل شبكة من الأفكار المترابطة التي تدعم بعضها البعض. وإذا تحولت هذه القناعات إلى فكر جمعي، تنشأ في المجتمع منظومة دفاعية لا تقبل أي تغيير في عنقود القناعات مهما كان صغيرا. والسبب هو الخوف من انفراط حالة الاتزان الصعبة بين العناصر التي تشكل العنقود الفكري.

تذكرت وأنا ارتشف ما تبقي من كوب الشاي البارد، أن هذه النظرة تؤكدها دراسات ونظريات في علم النفس والاجتماع. نظرية “الإطار المعرفي” التي تناولها جورج لاكوف توضح كيف أن هذه الأطر المعرفية تسهم في تشكيل رؤيتنا للعالم، وتصبح مقاومة للتغيير. إميل دوركهايم، من خلال مفهوم “المعرفة الجماعية”، أشار إلى أن المجتمعات تتبنى أنظمة فكرية مشتركة تشكل ما يُعرف بـ”العقل الجمعي”، وهو مفهوم يعبر عن مدى تعقيد وتشابك قناعاتنا الحياتية الجماعية بحيث يصعب تغييرها دون تهديد استقرار المجتمع.

كذلك، تناولت كارول دوويك في كتابها Mindset فكرة “الحصن النفسي”، مشيرة إلى أن الأفراد يبنون دفاعات نفسية لحماية معتقداتهم من التغيير، تمامًا كما يحدث في فكر المجتمعات الكبرى التي تتشبث بقناعاتها الخاصة.

في النهاية وأنا أغادر تلك الجلسة منفردا، أدركت أن تلك الأمسية كانت درسًا خاطفا. ليس فقط لصديقي الذي قاوم فكرة التأمل الذهني، بل لي أيضًا. تعلمت أن كل منا يمتلك قناعات تتشكل من منظومة فكرية يتداخل فيها نظامنا النفسي، وأنه لا يمكننا دائمًا تغيير تلك القناعات بالقوة أو الجدال. أحيانًا، كل ما يمكننا فعله هو أن نكون صبورين، وأن ننتظر اللحظة المناسبة التي يكون فيها الآخرون مستعدين للتغيير والقيام بالخطوة الأولى بأنفسهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×