سيرة طالب ٩٧] بين نوري المالكي والسيد محسن الحكيم
الشيخ علي الفرج
أيّها القارئ المحترم، سوف أسرد لك قصتين مدمجتين في قصة واحدة، وهي:
في السنوات الماضية وقبل الجائحة، زحفنا لزيارة الأربعين مع أصدقائي وأحبّائي، ومشينا مع المشاية يومين ونصف اليوم أو ثلاثة أيام.
بينما نمشي بهدوء بعد صلاة المغرب ونتناغى بالكلام المفيد والضحكات المباحة، ورجلانا كأسطوانتين تتقافزان فيهما العضلات، ولكن بعد ذلك تباطأنا في السير تعبًا وإنهاكًا.. وانسحب بعض الأصدقاء من المشاية فلم نَبْقَ إلّا أنا وصديقي (علي العوى أبي سجاد).
فمررنا على مفرزة طبية، فدخلناها وهناك طبيب ومساعدوه، ومباشرة ألقينا بجسمنا المنهك على السجادة، بدون أيّ كلام، بدأ الطبيب يدلّك أرجلنا براحة، وبدأت ألقي عليه مقطعًا شعريًا للاسترخاء:
يَا أَيُّهَا الْقَمَرُ الْمُعَبَّأُ بِالضِّيَاءِ أَمَا رَأَيْتْ
الصُّبْحَ أَطْفَأَهُ الْغِيَابُ وَكَانَ يَشْـرَبُ مِنْكَ زَيْتْ
* * *
قَالُوا بِأَنَّكَ غِبْتَ فِي الصَّحْرَاءِ فِـي قَبْوٍ وَغَابَةْ
وَلَرُبَّمَا قَدْ كُنْتَ تَسْكُنُ وَسْطَ بَحْرٍ أَوْ سَحَابَةْ
* * *
أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَسْتَ عَلَى الْبِحَارِ وَلَا السَّحَابِ
أَنْتَ الْحُضُورُ وَكُلُّ هَذَا الْكَوْنِ فِي ظُلَمِ الْغِيَابِ
قال لي: من قائل هذا الشعر الجميل؟
فقلت: خادمكم.
فقال: الآن من الضرورة أن تقبل دعوة.
فقلت: أنا بخدمتكم، ولكن ما هي الدعوة؟.
فقال: نطعمك العشاء في بيتنا، وترقد هذه الليلة، وبعدها تفطر صباحًا، ولكم الاختيار بعد ذلك.
قلت لصديقي: موافق؟
فقال: موافق، توكل على الله.
ثم قال الطبيب: سنصل بيتنا بسير المركب ربع أو ثلث ساعة فقط، وسنصل إلى قريتنا من قرى طويريج، وقريتنا هي قرية نوري المالكي، هل تعرفونه؟
قلت: بيني وبينه قصة جميلة، سألقيها عليك في مجلسكم في هذه الليلة القمراء.
فذهبنا إلى القرية، ووصلناها، وكان الجوّ قارسًا، فجاء بعشاء غير متوقع من الطعام الشهي، ثم أعطانا ملاحف ثقيلة لبرودة الجو، وجلس معنا في الليلة المقمرة، فعرفنا أنّ الطبيب شاعر، وهو خاطب في ذلك الوقت، وتناغينا بالشعر والقصص الجميلة، ومن ضمنها قصة نوري المالكي:
كنت في قم وتحديدًا في تاريخ ١٤١٨ هجرية عرفت نوري المالكي لأنه ناشط في الحركة الاجتماعية، وفي يوم من الأيام رآني وأنا أدخل في زقاق (بازار) بجانب حرم السيدة فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر، المعروفة بـ “المعصومة” عليهم السلام، فقال لي: سوف نقيم احتفال ذكرى وإحياء المرجع الكبير السيد محسن الحكيم، ومرور ٣٠ سنة بعد وفاته، وممن يحضر إن شاء الله ابنه السيد محمد باقر الحكيم، فنطلب منك قصيدة رنانة في هذه الذكرى، فماذا تقول؟
فقلت: المشاركة شرف كبير أن أؤبِّن المرجع وألقي في محضر السيد الموقر.
فقال: اتفقنا وستكون قصيدتك هي الوحيدة في الشعر.
ومرت أيام فكتبت القصيدة، وذهبت إلى القاعة، ورأيت نوري المالكي فسلّم عليَّ بحفاوة، ثم جاء السيد محمد باقر بأخلاق عالية ووجهه المضيء والمبتسم في محيّاه، ومعه وفد، وجلس وبدأ الاحتفال بقراءة القرآن، ثم القصيدة، وبدأت ألقي وأنا أنظر إلى السيد بشكل محوري:
ذِكْرَاكَ.. أَشْعَلْتُ مِنْ ذِكْرَاكَ قِنْدِيلِي
وَصُغْتُهَا لَهَبًا يَجْتَاحُ مَجْهُولِي
ذِكْرَاكَ مَا ارْتَسَمَتْ فِي وَجْهِ قَافِيَتِي
إِلَّا وَلَوَّنْتُ أَسْحَارِي بِتَرْتِيلِي
وَمَا عَطَفْتُ بِهَا إِلَّا وَتَعْطِفُ بِي
وَمَا بَكَيْتُ لَهَا إِلَّا وَتَبْكِي لِي
حَنُونَةٌ هِيَ مَا أَحْلَى شَفَافَتَهَا
كَأَنْتَ .. مَا كُنْتَ إِلَّا وَجْهَ مَرْسُولِ
* * *
مُدَّ الْجَنَاحَيْنِ سَبَّاقًا لَعَلَّ مَدًى
لَمْ يَحْظَ مِنْكَ بِمِيعَادٍ لِتَقْبِيلِ
لَعَلَّ وَجْهَكَ لَمْ تَمْسَسْهُ أُغْنِيَةٌ
عَطْشَى الْمَزَامِيرِ عَاشَتْ بَيْنَ تَأْمِيلِ
لَعَلَّ طَيْفَكَ ـ والأعواد تَحْمِلُهُ ـ
ما اهْتَزَّ في خَاطِرٍ ِبِالنَّعْشِ مَحْمُولِ
مُدَّ الْجَنَاحَيْنِ وَارْسُمْ خَالِدَاتِ رُؤًى
عَلَى الْفُرَاتَيْنِ لَمْ تُرْسَمْ عَلَى النِّيلِ
… الى آخر القصيدة، واللافت للنظر أنّ السيد كان يبكي منذ بدأت القصيدة إلى نهايتها، وبعد أن ألقيتها ذهبت وسلّمت عليه..
ثم ألقى السيد محاضرة عن شخصية أبيه المرجع، وانفضّ الجمهور، وقال لي نوري المالكي: بعد إذنك إن شاء الله سننشر قصيدتك في صحيفة (لواء الرافدين) في هذا الأسبوع.
فأعطيته ورقة القصيدة، وبعد أسبوع جاء إلى بيتنا في منطقة (رجائي) وطرق الباب، فخرجت، فإذا بنوري المالكي جاء إليَّ وعنده الصحيفة التي نشرت فيها قصيدتي، وأعطاني إياها، فشكرته شكرًا كبيرًا.
وإذا بالقصيدة منشورة في كلّ الصفحة الأخيرة. انتهت القصة.
ونرجع إلى قصتنا الأصلية وبعد أن نمنا وخمدنا في أعماق الأعماق، صلّينا صلاة الصبح وبعدها أفطرنا إفطاراً شعبيًا، قيمر طبيعي (قشطة) وبيض، ولكن شربنا الشاي الذهبي الذي لم أشرب شايًا أشهى وأحلى منه في ذلك الزمان والمكان، كلّما شربته تنتعش في قمة السعادة، وشربت أربع بيالات، وخجلت أن أطلب الخامسة. وهذه القصة محفورة في ذاكرتي.