سيرة طالب ٩٩] الحضور بوجه آخر
الشيخ علي الفرج
في سنة ١٤١٨ هجرية دعاني أحد وجهاء القطيف البارزين ثراءً وأدبًا لمأدبة، وكذلك دعا أصدقاءه المقربين، بما يقرب من ثلاثين شخصًا، على أن أتعرّف عليهم وهم يتعرّفون علي، وبعدها ألقي بعض قصائدي المختلفة.
حضرت المجلس- وأذكر في هامش موضوعنا أنّ الداعي يمتلك ستة مجالس في منزله/ قصره – وجلسنا في القاعة الرسمية.
فاجأني أنّ بعض أصدقائه فيهم شبه علمانيين، وبعضهم من المتديّنين ولكن منفتحين حدّ الإفراط.
وعلى كلّ حال، محور الجلسة هي التعرف عليَّ شعريًا وأدبيًا، والاستماع للمقتطفات الشعرية، فبدأت الجلسة، وقرأت قصائد وجدانية، من الغزل والتأمل في الكون وغيرها، بدون مدح أهل البيت عليهم السلام؛ لأنني أعلم بحساسية هذا الموضوع في بعض الحاضرين.
بعد أن انتهيت من القصائد الوجدانية أحببت أن ألقي سنارتي عليهم أو طعمة تزرق بالإبرة المخدرة، وبعدها أغلق صفحاتي، وهذا هو الذي أريد أن يكون الختام، وهو قصيدة بعنوان (الحضور بوجه آخر)، وهي في الإمام المنتظر (ع).. صار اللغط في خمس دقائق تقريبا بين السامعين، هل ألقيها أم لا ألقيها؟ بلحاظ أن من قالوا (لا يلقيها) أن هذه من الأشعار المكررة، التي لا فائدة فيها إبداعيا وتطورا في اللغة، فاستقر أمرهم أن ألقيها، فبدأت ألقي سنارتي، وهي:
أَغْلَقْتَ وَجْهَكَ بَيْنَ أَوْجُهِنَا وَأَعْـيُنُنَا دُخَانْ
لَكِنَّ ظِلَّكَ فِي أَصَابِعِنَا يُلَامِسُنَا الْمْكَانْ
* * *
مَنْ عَلَّمَ الأَمْوَاجَ أَنَّ سَنَا الْحَيَاةِ بِمُقْلَتَيْكْ
جُنَّتْ زَوَارِقُنَا وَهَذَا الْبَحْرُ يَحمِلُنَا إِلَيْكْ
* * *
وَهُنَا تُغْلِّفُنَا الثُّلُوجُ وَتَنْطَفِي فِينَا الْحَيَاةْ
وَتَظَلُّ تَحْفُرُ أَنْتَ فِي غَدِنَا الدَّقَائِقَ وَالْجِهَاتْ
* * *
وَهُنَاكَ فِي الْوَطَنِ الْمُخَبَّأِ فِي يَدَيْكَ هُنَاكَ وَرْدُ
وَوِلَادَةٌ زَرْقَاءُ تَصْنَعُ بَعْضَ خَطْوَتِنَا وَتَـعْدُو
* * *
وَهُنَا احْتِضَارَاتٌ مُلَفَّعَةٌ بِقُمْصَانِ الْخَرِيفِ
وَالْمَاءُ مِنْ مِلْحٍ وَقُرْصُ الشَّمْسِ فِي كَهْفٍ مُخِيفِ
* * *
لَكِنَّمَا اسْمُكَ وَقْعُهُ مَطَرٌ يُغَازِلُهُ الْجَفَافُ
وَيَدَاكَ سَاقِيَةٌ وَتَعْرِفُ طَعْمَ رَاحَتِكَ الضِّفَافُ
* * *
وَهُنَاكَ فِي عَيْنَيْكَ تَكْبُرُ لَحْظَةٌ فَتَصِيرُ أُفْقَا
وَتُلَامِسُ الثَّارَاتِ وَسْطَ قُلُوبِـنَا فَتَصِيرُ عِشْقَا
* * *
يَا أَيُّهَا الْقَمَرُ الْمُعَبَّأُ بِالضِّيَاءِ أَمَا رَأَيْتْ
الصُّبْحَ أَطْفَأَهُ الْغِيَابُ وَكَانَ يَشْـرَبُ مِنْكَ زَيْتْ
* * *
قَالُوا بِأَنَّكَ غِبْتَ فِي الصَّحْرَاءِ فِـي قَبْوٍ وَغَابَةْ
وَلَرُبَّمَا قَدْ كُنْتَ تَسْكُنُ وَسْطَ بَحْرٍ أَوْ سَحَابَةْ
* * *
أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَسْتَ عَلَى الْبِحَارِ وَلَا السَّحَابِ
أَنْتَ الْحُضُورُ وَكُلُّ هَذَا الْكَوْنِ فِي ظُلَمِ الْغِيَابِ
ولـمّا ألقيت أول أربعة أبيات لم يكن الحضور متفاعلين، ولكن بعد ذلك بدأ التفاعل تدريجيًا، وانتهيت من إنشاد الأبيات وأصواتهم تضج ضجيج السكران، ثم فوجئت بطلبهم أن ألقي القصيدة مرة أخرى، فألقيتها وقد هيأوا أوتار الألحان من البداية، فتفاعلوا مع كلّ بيت من أبياتها، فصارت (الحضور بوجه آخر) الرقم الأول في تلك الليلة القمراء، وأخذ ورقة القصيدة أول شخص من جهة اليمنى إلى آخر شخص من جهة اليسرى.