رأي هاديء في الأوقاف الجعفرية
حبيب محمود
الشق الإجرائي للأوقاف يختلف عن الشقّ الفقهيّ. الشقّ الإجرائي مدّني تنظيميّ قانوني؛ هدفه دعم الشقّ الفقهي، وضبط الحقوق إجرائياً، بفصل الحق الوقفي عن حق الملكية.
الأصل الذي حدث أولاً هو تحول ملكيات فردية إلى أوقاف؛ بإرادات خيّرة. حسناً هذا المبدأ واضح. ولكن ما يمكن أن يحدث في “بعض” الأوقاف هو عودة تحوّلها إلى ملكيات فردية؛ بإرادات غير خيّرة، وهي ليست الإرادات الأولى بالطبع.
كلا الحدثين من الطبيعة البشرية المتأرجحة بين طلب المثوبة الأخروية.. والجشع الدنيوي.
وفي أزمنة سابقة؛ قد يتحوّل الوقف إلى ملكية شكلاً ومضموناً. وقد يتحوّل مضموناً فحسب. ثم نضجت الإجراءات قليلاً؛ فصار من المتعذر “سرقة” الوقف شكلاً. ويبقى الوقف وقفاً رسمياً، ولكن ريعه “مضمونه” قابل للتعامل معه كريع ملكية فردية.
وهذا هو الواقع الذي وصلنا إليه، واقع “الشين خرّب على الزين”.
المؤتمنون على الأوقاف أهل خير وذمة، وعند حسن الظنّ، ومُثابون على عملهم وجهدهم، ويستحقّون ما أقرّه الفقه لهم من الانتفاع المادي مما يُديرونه من عمل، ويُشهد لهم بالحرص على مصالح الأوقاف التي بين أيديهم.
ولكنهم ـ في النهاية ـ أفرادٌ، بشرٌ، ولا يعلم الناس من ظاهرهم إلا خيراً. ولا يجوز الطعن في ذمة أيّ منهم بلا بينة. وحتى في حال البينة واليقين؛ لا يجوز تعميم حالة فاسد على صالحين، ولا يمكن سحب حالة مُريبٍ على واضحين.
هنا تبرز كلمة “لكن” مجدداً؛ ليكون الإجراء التنظيميّ حاسماً في الموضوع.
الوليّ الشرعي النزيه لا يتردد في التعامل مع الإجراء التنظيميّ. لقد حصل على الولاية بشكل سليم، وسُجّلت أوقافه بشكل سليم، وهو يُدير مسؤولياته بشكل سليم، ويأخذ حقه الشرعي المُقرّ فقهاً بشكل سليم، ويصرف ريع الأوقاف في الوجه الشرعي الموقوف له بشكل سليم..!
وبالتالي؛ فإن التنظيم لن يُشغله في قلق. إنه مستفيدٌ في كلّ الحالات، على نحو سليم.
إنما يقلقُ من لديه “غير سليم” في حلقة من حلقات تعامله مع الوقف. لأنه مستفيد من الفوضى، وتمرير الأمور على الثقة والمسؤولية المُسيّحة. إنه من ذلك النوع من المتحفظين على علم أحد بما تحت أيديهم من أوقاف، ناهيك عن إفصاحهم بما تُعطي وتكلّف.
هؤلاء الناس؛ مشغولون جداً بفهم ملتبس، ويخلطون بين “الوقف” و “الملكية”، وربما يظنون أنهم “يحسنون صنعا”.
لقد انتهى ذلك الزمن الذي كانت فيه الأمور تُدار بحرية فردية مطلقة، لا جرد، ولا ضبط، ولا تصرف، إلا بقرار الفرد الواقع تحت تأثيرات بشرية صرفة.
الأوقاف ليست ملكياتٍ، ومن الطبيعي أن “ينتفش” من ليس لديه هذا الفهم، وسوف يعمل ـ بكامل طاقته ـ من أجل حماية ما تحت يديه، ويلوذ بتفسيراتٍ كثيرةٍ، حتى لا يجد نفسه “مساءلاً”..!
علينا أن نخاف الفوضى.. لا التنظيم.