فن إبراهيم الميلاد.. ما هو أبعد من الفطرية

علي الشيخ أحمد
وسط عالم من الألوان العفوية التي وجدت طريقها إلى الجدران دون تخطيط مسبق، يجلس إبراهيم الميلاد في مرسمه في قرية التوبي بمحافظة القطيف، ذلك المكان الذي لم يخضع لقواعد الفن التقليدي، لكنه امتلأ بروحه الفطرية التي حوّلت الجدران إلى صفحات من حكاية لم تُروَ بعد.
تكسو ملامحه تجاعيد الزمن، تحكي حكاية رجل لم تفقد عينيه بريق الاكتشاف، فكل خط يرسمه هو مغامرة جديدة لاكتشاف ذاته قبل أن يكون استكشافًا للفراغ البصري.
إنه أشبه بشاهد على عصرين؛ الماضي الذي يحمل في طياته البساطة الخالصة والتلقائية النقية، والحاضر الذي يحتفي بالفن، لكنه في كثير من الأحيان يضعه داخل إطار مغلق من التنظير والتقنيات الصارمة، على عكس لوحات إبراهيم التي تنبض بحرية لا تعرف الحدود، مما يجعلها انعكاسًا حقيقيًا للروح المتحررة.
في عالم الفن التشكيلي، حيث تسود المدارس الأكاديمية العريقة والتقنيات المدروسة التي وضعها كبار الفنانين عبر التاريخ، يبرز إبراهيم الميلاد كحالة استثنائية تعتمد على العفوية والارتجال، وتعيد إحياء روح الفن البدائي في لوحات جدارية تنبض بالحياة. إنه فنان لم يدخل أكاديمية، ولم يجلس أمام أستاذ يلقنه أسس الرسم، لكنه أبدع بأسلوبه الفطري التلقائي، وكأن الريشة والألوان امتداد طبيعي لروحه.
هذه العفوية لم تكن نقصًا في المعرفة، بل كانت وسيلة لتجاوز التعقيدات وإعادة الفن إلى أصله البسيط الذي يتفاعل مع الوجدان دون الحاجة إلى تفسير أو تحليل. فلوحاته ليست مجرد أعمال بصرية، بل هي انعكاسات داخلية لعالمه الداخلي، حيث تختلط الأحاسيس الصادقة مع الأشكال العفوية، لتشكل تجربة فريدة لكل من يتأملها.
وسط عالم من الألوان الارتجالية التي وجدت طريقها إلى الجدران دون تخطيط مسبق، يجلس إبراهيم الميلاد في مرسمه، ذلك المكان الذي امتلأ بروحه الفطرية. تكسو ملامحه تجاعيد الزمن، لكن في عينيه بريق فنان لم يفقد الدهشة، ولم تنطفئ لديه رغبة سبر المجهول. إنه أشبه بشاهد على عصرين؛ الماضي الذي يحمل في طياته البساطة الخالصة، والحاضر الذي يحتفي بالفن حيث يضعه داخل إطار مغلق بكثير من القوانين والمبادئ، على عكس لوحات إبراهيم التي تنبض بحرية لم تعرف الحدود.
في عالم الفن التشكيلي المقولب، حيث تسود المدارس الأكاديمية ذات التقنيات المدروسة، يظهر إبراهيم الميلاد كحالة مختلفة تعتمد على العفوية والارتجال، وتعيد إحياء روح الفن البدائي في لوحات جدارية تنبض بالحياة. إنه فنان لم يدرس الفن في المعاهد، ولم يتلقَ توجيهًا من معلم، بل امتلك موهبة فطرية فريدة، فكانت أدواته امتدادًا لروحه المبدعة وكأن الريشة والألوان امتداد طبيعي لكيانه.
فن بلا قيود.. عفوية بلا تصنّع
يمتلك إبراهيم الميلاد حسًّا بصريًّا فريدًا يجعله يترجم أفكاره ومشاعره بطريقة مباشرة وصادقة، دون أن تقيّده القواعد الصارمة للفن التقليدي بمدارسها المختلفة. لوحاته الجدارية تشبه لغة قديمة منقوشة داخل كهوف الزمن، تستمد روحها من الفنون البدائية التي كان الإنسان الأول يعبر بها عن ذاته.
ولعل مما يميز أعماله أنها بلا عناوين، فهي ليست مشاهد منفصلة لها بداية ونهاية محددة، بل امتداد بصري متداخل، وكأن الجدار نفسه يتحول إلى نسيج متصل من الألوان والخطوط والأشكال، باستثناء بعض الأعمال التي أحاطها بإطار خارجي، مما أضفى عليها هوية أكثر تحديدًا.
لم يكن إبراهيم الميلاد يخطط كثيرًا لما سيرسمه، بل كان يترك يده تتبع إحساسه، فيخرج العمل الفني نابضًا بالصدق والبساطة. في لوحاته، لا تجد تركيزًا على تفاصيل دقيقة، بل تراكيب بصرية تتدفق بحرية، وكأنها جزء من سردية مستمرة لا تعرف حدودًا، حيث تمتزج العناصر دون انقطاع. قد تجد اشكالا تعكس مشاعر متضاربة، أو رموزًا تبدو وكأنها جزء من أسطورة قديمة، أو حتى أشكالًا مجردة تثير التساؤلات أكثر مما تقدم إجابات. في عالمه، الجدار ليس مجرد سطح، بل ذاكرة تنبض بالحياة، ونافذة مفتوحة على عوالم تتجاوز الزمان والمكان.
بين الفطرة والعمق البصري
على الرغم من عفويته، فإن فن إبراهيم الميلاد لا يخلو من العمق. فهناك انسجام غريب بين الفوضى الظاهرة في خطوطه وبين التناسق الداخلي الذي يجعل لوحاته تتحدث بلغة عالمية يفهمها كل من يتأملها.
يده المتشابكة فوق ركبته ليست مجرد استراحة جسد متعب، بل هي يد اعتادت أن تتبع إحساسها دون حاجة إلى مرجعيات بصرية أو نظريات أكاديمية. أصابعه الملطخة بالألوان، وإن كانت الآن خالية منها الان، تحمل ذاكرة الفرشاة، وكأنها امتداد طبيعي لروحه، تترك أثرها على الجدار كما تترك الأيام أثرها على الملامح.
ما يميز إبراهيم هو أنه لا يقلد الفن البدائي، بل يستلهم روحه ويعيد تقديمه بطريقة تعكس ذاته ورؤيته الخاصة. إنه لا يحاول “تصميم” لوحة، بل يتركها تتشكل كما يريدها الإحساس، وكأنه يعيد اكتشاف الفن من جديد بعيدًا عن التنظير والتأطير الأكاديمي.
هذا النهج جعله يبتكر أسلوبًا بصريًا حرًا، تتدفق فيه الألوان والخطوط كما لو كانت جزءًا من امتداد طبيعي للجدار، وليس مجرد طبقة خارجية عليه. إنه يرسم كما يتنفس، بلا تكلف، بلا حسابات، فقط يترك الألوان والخطوط تنساب كما تشاء بأشكال ورموز تثير التساؤلات أكثر مما تقدم إجابات.
موهبة صامتة.. وفقدان إرث فني
إبراهيم الميلاد لم يكن يسعى للشهرة أو الاعتراف، بل كان يرسم بدافع ذاتي بحت، وكأن الرسم بالنسبة له كان حوارًا داخليًا أكثر منه وسيلة للتواصل مع الآخرين. هذا الصمت الذي أحاط بإبداعه جعله مجهولًا لعدة عقود وهي فترة طويلة، حتى تم اكتشافه-بالنسبة لي- من خلال فيديو نشره الفنان عبد العظيم الضامن، ليكشف للعالم موهبة فنية ظلت في الظل لعقود.
لكن رغم غزارة إنتاجه، فقد كثير من هذه الجداريات بسبب تغيرات الزمن وانتقاله من منزله القديم الذي كان يتضمن بعض اعماله، ما أدى إلى ضياع جزء كبير من إرثه الفني.
هذا الفقدان لا يمثل خسارة شخصية فحسب، بل هو أيضًا فقدان لجانب من تاريخ غير مكتوب لفنان كان يرسم دون أن يسعى وراء التوثيق أو الحفظ.
في النهاية، إبراهيم الميلاد ليس مجرد فنان يرسم، بل هو كائن يخلق عالمه الخاص على الجدران، عالم يفيض بالمشاعر، بالفطرة، وبالصدق. إنه يثبت أن الفن ليس مهارة تُكتسب فقط، بل أيضًا روح تتنفس، وأن اللوحة، حتى لو كانت مرتجلة ودون عنوان، يمكن أن تكون أكثر تعبيرًا وخلودًا من أكثر الأعمال المدروسة إتقانًا.
خصائص الفن التشكيلي في الجداريات: بين التجريد والرمزية
يتسم فن إبراهيم الميلاد بالتسطيح التام، حيث تغيب الأبعاد الثلاثية التي تعتمد على المنظور الهندسي. وبالتالي، لا يوجد في لوحاته أي عمق بصري أو محاولة لإيجاد انطباع بالبعد المكاني، مما يمنح أعماله طابعًا تجريديًا يركز على العلاقات الشكلية واللونية.
بالإضافة إلى ذلك، لا يستخدم الظلال أو الإضاءة كعناصر لإبراز الكتلة، بل يعتمد على الألوان الصريحة والخطوط الواضحة لتحديد الأشكال، كذلك، تغيب القيم الضوئية تمامًا، حيث لا توجد تدرجات بين الظل والنور، مما يجعل الأشكال تبدو مسطحة تمامًا دون أي إيحاء بالبروز أو العمق مما يعزز من طابعها المسطح.
وعلاوة على ذلك، يغيب عنصر الفراغ في لوحاته، إذ تبدو المساحات ممتلئة بالكامل دون أي مناطق خالية تتيح إحساسًا بالتنفس البصري، كما أن القيمة اللونية تكاد تكون غائبة، نظرًا إلى عدم مزج الألوان واعتمادها بدرجة تشبعها الأصلية. وهذا بدوره يمنح العمل صفاءً لونيًا مباشرًا، لكنه في الوقت نفسه يحدّ من تنوع الطبقات البصرية.
ومن جهة أخرى، يُعد التناظر عنصرًا شبه أساسي ومتكرر في أغلب لوحاته، مما يضفي إحساسًا بالنظام والاتزان.
بالإضافة إلى ذلك، يعتمد الفنان على تقنية التنقيط، حيث يستخدم نقاطًا منتظمة أو متباينة الحجم لتكوين الأشكال، وهو ما يمنح أعماله طابعًا زخرفيًا يعكس حسًا فنيًا فريدًا.
أما من ناحية المضمون، فبالإضافة إلى الطابع التجريدي، تحمل أعماله بعدًا رمزيًا واضحًا. إذ تعكس الأشكال المتكررة والأنماط الهندسية رموزًا ذات دلالات ثقافية وروحانية. ومع ذلك، فإن هذا البعد الرمزي قد لا يكون مقصودًا بوعي الفنان نفسه، بل هو انعكاس لتلقائيته وعفويته في التعبير.
وهنا، تبرز أهمية التفاعل بين وعي الكاتب كمتلقٍ ولا وعي الفنان، حيث تتشكل دلالات قد تتخذ طابعًا عالميًا يتجاوز السياقات المحلية، حتى وإن لم يكن الفنان واعيًا تمامًا بهذه الأبعاد أثناء عملية الإبداع.
وفيما يتعلق بالخلفية، فإنها تأتي كجزء لا يتجزأ من العمل الفني، حيث تتناغم مع العناصر الرئيسية بدلاً من أن تكون مجرد مساحة محايدة. وهذا التكامل يجعل اللوحة تبدو كنسيج بصري واحد، حيث تتداخل الألوان والأنماط لتعزز الرؤية العامة للعمل الفني. كذلك، تظهر الرمزية في التباينات اللونية والتراكيب المكررة، مما يوحي بوجود معانٍ لا واعية مستترة تتجاوز الشكل الظاهري للعمل، وتفتح المجال أمام قراءات وتأويلات متعددة من قبل الكاتب كمتلقٍ.
من الناحية الفنية، تتجلى ملامح الفن الرؤيوي، الذي يعكس ويهتم بالعوالم داخلية للنفس، والفن الخارجي، الذي ينبع من تعبيرات غير أكاديمية، في هذه الجداريات.
وتظهر ايضا تشابه واضح مع مدارس الفن البدائي والنقطي الأسترالي. ومن هنا، فإن هذه التأثيرات تمنح العمل بُعدًا روحانيًا وتأمليًا، حيث يتم التعبير عن مشاعر داخلية لحظية من خلال لغة بصرية تجريدية تحمل دلالات رمزية لا واعية، ربما عالمية الدلالة. وهذا ما يتيح للكاتب كمتلقٍ استكشاف مستويات متعددة من المعنى، تتجاوز حدود القصد المباشر للفنان.
في الختام، تبدو جداريات إبراهيم الميلاد أشبه بنوافذ مفتوحة على عوالم غير مرئية، تدعو المشاهد إلى الغوص في بحر من التأمل والتساؤل. إنها ليست مجرد ألوان وأشكال، بل طاقة بصرية تنبض بالحياة، تهمس للروح أكثر مما تخاطب العين، ورغم عفويتها الظاهرة، إلا أنها تحمل رسالة خفية، قد لا تكون مقصودة، لكنها تترك أثرًا عميقًا في النفس، كأنها شيفرة بصرية تدعو المتلقي لفك رموزها بطريقته الخاصة.
وبعيدًا عن القوالب الأكاديمية، ينسج الفنان فضاءً تشكيليًا حرًا، حيث تتحرر الخطوط من سطوة القواعد، وتنطلق الألوان بلا قيود، ليصنع عوالمه الخاصة، ثم يمد يده إلينا بدعوة صامتة: انظر، تأمل، واشعر… كما لو أن كل لوحة هي رحلة جديدة لاكتشاف الذات من خلال الفن.