خطة ونطة.. أرقُّ من لعب “اصْبَيْ” و “ابْنيّهْ”

عبدالله أبو رشيد

في زمنٍ لم تكن فيه الشاشات قد غزت أيامنا، ولا صارت الطفولة حبيسة الجدران، كنا نعيش الحياة ببساطتها… نقرأها من ملامح الأمهات، ونكتبها بأصابعنا على التراب.

هذا النص ليس مجرد ذكريات، بل هو استدعاء لزمنٍ صافٍ، تعلّمنا فيه الحب بالفطرة، واحترام الكلمة قبل أن نكتبها.

وهنا الحب لا يعني الغرام بل الالتزام بحدود الأدب كأطفال نعيش طفولتنا.

هنا حكاية “اصبي” و”ابنيه”… وهنا الطفولة حين كانت تصنعنا، قبل أن يصنعنا العالم، حين كانت الحياة تُكتب بالطين… وتُقرأ من عيون الأطفال.

لم نتعلم الحب من كتاب، ولا حفظنا دروس النقاء من ورق، بل كانت أولى أبجدياتنا خَطًّا نرسمه على التراب، بأطراف أصابع مرتجفة… ثم نقفز فوقه بثقة طفلٍ يظن العالم لعبة، ذلك ما سمّيناه: “الخطة والنطة”، لعبة واحدة… لا تكتمل إلا إذا اجتمع الرسم بالحلم، والقلب بالقدم.

كنا نعيش التفاصيل لا نمر بها، نسمّي الحصى “اصبي” و”ابنيه”، ونرسم وجوه أصدقائنا على الرمال، ونحفظ صوت الضحك وكأنه آية، في ساحة بيتٍ مفتوح، في ظلّ نخلةٍ شامخة، وفي قلب أمٍ تُراقب اللعب من النافذة وتبتسم… دون أن تتدخل.

وحين نترك اللعب، نشدّ أطراف “الثوب”، ونمشي إلى “المعلّم”، لا مدارس فارهة، ولا سبورات إلكترونية، بل هو لوح من “كرب” النخيل، وقلم من “سعفةٍ” ناعمة، نغمسها في طينٍ مبلول بالماء، ونكتب أول الحروف (الطيان) بخوفٍ طاهر، وننظر إلى المعلّم كأنه باب من أبواب الجنة.

كنا نتعلم القراءة قبل الكتابة، وكأننا نقرأ دستورًا يُنظم حياتنا، ويضع حدودها بحكمةٍ فطرية، نتعلم به كيف نعيش مع الناس، وكيف نصون القلوب قبل الحروف.

ثم ننتقل إلى الكتابة، فننقش الحروف بالطين على كرب النخيل، ونكتب بقلمٍ من سعفة ناعمة، وكأنهم أرادوا أن يربطونا بالنخلة… بما فيها من غذاءٍ، وشموخ، وصمود أمام المِحن، كأن العلم لا يكتمل إلا إذا كان ممتدًا من جذور الأرض، وثابتًا كجذع النخلة، وعاليًا كعذوقها المعلّقة في السماء.

لم يكن “المعلّم” مكانًا للتعليم فقط، بل كان مدرسة للحياة، هناك تعلمت البنت كيف يكون البيت مملكة، وكيف تُنظَّف الأواني كما تُنظَّف القلوب، وكيف يُطهى الرز بحب، وكيف تُرعى الأخلاق بالسكوت لا بالصوت.

وهناك، تعلّم الولد كيف يمشي بجانب الأنثى بأدب، وكيف ينظر للأرض احترامًا لها، وكيف يعتذر دون أن يُجبر، لأن “العقاب والثواب” لم يكونا ضربًا، بل نظرةً تُعيدك إلى نفسك.

كبرنا… وغادرنا الساحات، تفرّقنا، كلٌّ منّا مضى في طريقه، أسّس بيتًا، وربّى أبناءه على ما تبقّى من ذلك النقاء، حاولنا أن ننقله كما هو، دون أن تفسده ازدحامات العصر، فبقيت الذكرى… كأنها درس من دروس الطهارة، نردده في قلوبنا كلما أرهقنا الكبر، وكلما بحثنا عن أنفسنا القديمة.

كانت الطفولة لنا كتابًا مفتوحًا، قرأناه بأصابعنا، وحفظناه بقلوبنا، ثم مضينا نعلّمه بصمت، لمن جاء بعدنا.

وسواء كانت تلك الأيام ذهبًا، أو طينًا… فهي حكاية لعب، نظيفة، بسيطة، صنعتنا كما نحن، قبل أن يأتينا العالم بوجهه الآخر.

“الخطة والنطة” علمتنا القفز فوق ما لا نحب، و”اللقفة” علمتنا أن ما يقع يمكن أن يُلتقط بلطف، و”المعلّم” علّمنا أن الكتاب لا يُقرأ فقط… بل يُحترم، وأن الإنسان لا يُكسر… بل يُربَّى.

وفي زمنٍ ما كان فيه شيطان يدخلنا، ولا خصامٌ يسكن قلوبنا، كنا نعرف الطريق إلى الخير بالفطرة، وإذا ضللنا… تكفينا يد أم، أو نظرة جد، لنعرف أننا أخطأنا.

ثم، في ليلةٍ صامتة، عدتُ إلى هناك، إلى الحارة، إلى ظلّ النخلة، فرشت الأرض بأطراف كفي، وخططت أول خَطّة.

ضحكت… ثم نطّيت.

وصحيح أن الطين تلطخت به أيدينا وملابسنا، لكن قلوبنا بقيت بيضاء كما السحاب، وأفكارنا لم تُلوَّث رغم فقر المكان، لأننا نشأنا في بيئة طاهرة.. نظيفة كأنها وضوء قبل الفجر.

ومع القفزة، شعرت بأن قلبي عاد طفلًا، وأن العالم، رغم كل ما تغيّر، ما زال ينتظر… أن نلعب، ربما لم تكن أيامنا مثالية، ولم تكن لعبتنا أغلى من لعبة إلكترونية تُباع اليوم، لكنها كانت نظيفة، بريئة، صادقة… تمامًا كقلوبنا.

وها نحن نحملها في ذاكرتنا، نكتبها وننشرها، عسى أن يقرأها من نسي نفسه في زحمة هذا العصر.

كل ذلك كان مناماً، وما أجملهُ من منام، حينما استحضرت من خلاله طفولتي، وأعدتُ إلى ذاكرتي أجمل ايام العمر التي طواها الزمان، لكن الطفولة أتت في حلم لتقول لي: ليس طي السجل للكتاب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×