[ذاكرة] تقرير صحافي يرصد تفاعل أدباء القطيف مع كارثة الشاعر عبدالوهاب المهدي أعدّه عبدالله الدبيسي وجمع فيه مقاطع من الشعر والنثر في الفاتحة والتأبين
القطيف: صُبرة
أحدثت كارثة الشاعر عبدالوهاب حسن المهدي دويّاً في المجتمع، وفي الإعلام المحلي. وفي اليوم التالي للكارثة؛ نشر مراسل صحيفة “اليوم” في القطيف وقتها، علي خواهر، تقريراً عمّا حدث، محدداً وقت الحادثة، وتفاصيلها المرعبة.
وفي اليوم الثالث؛ نشر مراسل “اليوم” في الدمام، فيصل القو، خبراً عن متابعة أمير المنطقة الشرقية، وقتها، الأمير محمد بن فهد بن عبدالعزيز للموضوع.
الخبر المنشور في “اليوم” بعد الحادث بيوم
خبر متابعة أمير المنطقة للموضوع
تقرير صحافي لم يُنشر
لكنّ القصة لم تنتهِ عند ذلك. ففي القطيف تناوب الشعراء على رثاء الشاعر المنكوب وأسرته، وأُلقيت قصائد وكلمات في مجالس “الفاتحة”. كما أُقيم حفل تأبين للشاعر. ومن صحيفة “اليوم”، أيضاً، تابع محررها عبدالله الدبيسي تفاعل الأدباء والشعراء، وجمع أغلب النصوص، وانتظر وصول نصوص أخرى، وأعدّ مادة صحافية للموضوع، لكن تأخر وصول النصوص دعاه إلى تأجيل النشر. ولم يُنشر التقرير في وقته.
بعد كل هذه السنواتِ؛ أعطى الزميل الدبيسي حقّ نشر المادة التي أعدها منذ 34 سنة في “صُبرة”. ونحن ننشرها كما كُتبت في وقتها.
لو سمعت عن شاعر موهوب اسمه عبدالوهاب المجمر يجيد الشعر في أغراضه ومناسباته، وفي جده وفي هزله، ويُطريه أهل الفن بإعجاب، ثم صادفت شخصاً متواضع القامة والمظهر، يلفّ طرفي غترته على جانبي رأسه، كأي بحّار خليجي، لتوقفتَ حتماً تبحث عن عبدالوهاب خلف الصورة.
هل تستشف من هذا الوصف انتقاصاً لقيمة الرجل؟
لا.. بل هو الواقع الذي يجعل الإعجاب مضاعفاً بعبدالوهاب، الشاعر والإنسان.
لم أكن أعرفه حتى رأيته في محفل، وكانت قصيدة فيه بيت القصيدة.
شاعرٌ ساخرٌ يُطرب الجميع، ويُضحكهم بنكاته وقفشاته.. بارع في توظيف الكلمة الدارجة، توظيفاً فنياً عالياً، لتأتي في مكانها بعفوية وانسجام.
تركت مأساة موته مع أفراد أسرته حرقاً في دارهم؛ أثرها المؤلم في نفوس الجميع، وتحوّل ذلك الألم العميق إلى مشاعر فياضة، وأحاسيس صادقة، تعبّر عن حجم المأساة، ومدى الشعور بالخسارة التي خلّفها فقد عبدالوهاب.
يبدو ذلك من خلال العديد من الكلمات والقصائد التي اُلقيَت في مجلسيْ الفاتحة والتأبين، وظهر عبدالوهاب ـ من خلالها ـ شخصاً من طراز فريد، ومن معدن لا يتكرر.
اتفق الجميع على إنسانيته الفذة، كما اتفقوا على شاعريته المتميزة.. وهكذا تحوّل مجلسا العزاء والتأبين إلى مهرجانين تسابق أصدقاء الفقيد ومعارفه بالكلمة والقصيد، لتقديم أجمل عاطفة وأصدق شعور، عن شخص عاش شبه مغمور، إلا وسط حاشية الشعر والأدب. فشهد هذا الحضور والإحساس الجمعي للفقيد لقيمته إنساناً مجرداً من تلك المظاهر التي تفرض المجاملة أحياناً.
من هو..؟
في القطيف ولد شاعرنا عبدالوهاب، ليرضع الفكر الرصين والأدب الحي.. لم يكن فقر أسرته ليحول بينه وبين الاستزادة من العلم والأدب، بل كان زاد الفكر آثـَرَ لنفسه من زاد الطعام…
الفقر سيفٌ مسلطّ على عنق المبتلَى به.. المهانة والاكتئاب وتقعُّر النفس مظاهر للفقر، ولكن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ جرّد له صارم الصبر فقهره…
المرح والفكاهة والإخلاص والصدق سجايا تُحس بها منه، وأنت تعامله.. لم تُفسد جوهر نفسه كآبة الحاجة وأجوائها النفسية البغيضة.
كان شعلة من الذكاء.. بزّ أقرانه في المدرسة، وكان قصيراً في جُرمه، عملاقاً في مشاركاته، يُرى حيث يقف، وتشرئبُّ له الأعناق.
عبدالعلي السيف
أرض عبدالوهاب
لكي تعرف عبدالوهاب تماماً؛ يحب أن تهبط إلى أرضه.. والهبوط إلى أرضه مغامرة.. هكذا عبّر أحدهم وهو يقدم عبدالوهاب، مبتدأً بالسؤال: هكذا:
إذن؛ فضع قلبك متجسداً بين يديك.. وترجّل من على صهواتك المتعالية، واهبط معي أرض عبدالوهاب.. أرض.. نعم.. أرض.
غير أن الشاعر يُنبؤنا في قصيدته “شكوى” أنه لم يكن يملك أرضاً.. كان يملك أوراقاً، ودواة حبرٍ ومكتبة ملأى بالصحف والأِشعار.. وكومة متراصة من الأحزان تقبع في كلّ زاوية من حياته.
ولا يغرنّك أن وجدته ـ مرةً ـ ساخراً مع صديق.. إنه ليتلعثم السخرية أحياناً، تلعثماً طفولياً منطوياً على أحزانه.
ألم يشددك ما في وجهه من حياة الفلاحين واستكانة البحّارة؟
إن السخرية هي فائض القيمة الإنساني في تاريخ الفقراء، وهي ـ لدى شاعرنا ـ طعام كان يقتاته به صباحَ مساءَ.
محمد رضا نصر الله
الشاعر الإنسان
“عبدالوهاب” لم يكن شاعراً ومثقفاً فحسب، ففي هذه الصفة يشاركه كثيرون من فرسان الساحة الأدبية شعراً ونثراً. ولكن الفقيد كان يتمتع بكثير من الصفات والمزايا الحميدة، فقد كان بسيط المظهر، نبيل المخبر، عفّ اليد واللسان، طاهر الوحدان، قوي الإيمان. وكانت الابتسامة مشرقة دائماً على وجهه.
لم أرَ عبدالوهاب يوماً عابساً، أو متجهماً، ولم أسمع من عبدالوهاب، ولم يسمع غيري منه، أو عنه، لفظة نابية، أو عبارة تتنافى مع مكارم الأخلاق. وقد كان يبذلُ كلما لديه من إمكانية في عمله لمساعدة المواطنين، وسرعة إنجاز أعمالهم، لا يطلب من أحدٍ جزاءً ولا شكورا. فحسبه أن يعمل ما يُرضي ربه وضميره.
كمال محمد الفارس
سجايا نادرة
تمتع المرحوم بطيبة النفس وسعة الصدر، حتى ليُشعرك بأنه شجرة ورد دون شوك.. كان يُبادر إلى تحية الصديق، وكان الأكثر احتفاءً به، وتريداً لعبارات التحية في لينٍ وبساطة.. لا يشوبهما تكلفٌ أو اصطناع للمشاعر.. هذا هو طبعه، وهذه سجاياه، وقد أكرمه الله بها، وجعلها موضع ذكرى عطرة، وحديث الأصدقاء من بعده:
“لا أظن أن عبدالوهاب يُنسى بتلك السهولة، خصوصاً من أصدقائه ومعارفه الذين يعرفونه بإبائه حتى في أضيق الحالات، ودماثة أخلاقه وهدوء طبعه، حتى أنني أجزم فأقول: يتعذر أن نجد أحداً وقف منه موقف الانفعال، أو حتى الاشمئزاز، فهو الذي كان يبتسم لكل كلمة طيبة يسمعها، ويتظاهر بالتشاغل بأي شيء، لأي كلمة نابية يسمعها عليه أو على غيره.
وكان شديد الحرص على زيارات أصحابه، والسؤال عنهم، وعلاقته بأقاربه علاقة احترام متبادل، فهو شديد الارتباط بكبيرهم وصغيرهم.
أما علاقته بعائلته، فتتجلّى في ذلك الالتصاق الشديد.. هكذا كان حتى ساعة الانتقال إلى الدار الآخرة.. فقد شاء القدر أن تُواكب روحه أرواحهم، وتُكتب له الشهادة معهم، ليعيش معهم آخرتهم، كما عانى معهم في دنياهم”.
السيد مهدي الصائغ
دمعة الشعر
كل الدور للشعر حين تُستثار العواطف.. أما إذا غُرس النصل الحاد في قلب الشاعر؛ فإن الشعر ـ هنا ـ يُصبح نزفاً حقيقياً، ويستحيل لوعةً.. تلك هي كلمات أشعارهم في عبدالوهاب.. كان الجميع أصدقاءه، بل كان الحبيب إلى قلوبهم، فماذا يقول الشاعرُ حين يفقد حبيبه..؟ وكيف تكون العاطفة إذا كان فقده مفاجئاً و مروعاً.. بل ومضخماً برحيل الأهل والبنين..؟
لن نستكثر ـ إذن ـ على عبدالوهاب عاطفةً لا كالعواطف، حتى وإن أصبح الشاعر ذبيحاً بعاطفته ورثائه:
لا تلمني ـ أبا رقية ـ إن بُحّ
نشيدي؛ فإنني مطعونُ
في دمي مرجلٌ، وتحت ضلوعي
شفراتٌ، وفي فمي سكينُ
فبناني مخضّبٌ بالمآسي
ويراعي مثلّمٌ موهونُ
وعلى كل قطرةٍ من مدادي
هاجسٌ نازف، ونبضٌ سخينُ
السيد عدنان العوامي
ملهم الشعراء
والحسرة على عبدالوهاب ـ إنساناً ـ تتضاعف بفقده شاعراً متمكناً، سامر الشعراء وسامروه، وأخذ منهم وأعطى، فتكبر الخسارة لديهم بفقده.. هكذا يواصل العوامي، ولكن في قصيدة أخرى:
يُسائلني عنك ديوان شعري:
لماذا أضعتُ بفقدك صبري..؟
قوافيه ما زال في نبضها
صدى من رفيف خيالك يسري
وأول قطرة حبرٍ بها
وأول حرفٍ، وأول سطرِ
وأضيَقُ حاشيةٍ ضمّها
عليه يراعك، يجري فيُثري
وفاصلة أنت رتببتها
تخيرتها من رحيقٍ وعطرِ
الشعر والحب
هكذا هو شاعرٌ يُبادلك الشعر كما يبادلك العطاء والحب.
هو صاحب الفكرة..
هو الشاعر الموجه..
وهو الشاعر المتميز حين يُنشد وسط الصحاب..
شَرْبٌ من الصحب تسقيهم فتُسكرهمْ
وليس من غير جرس الحرفِ سُكرهُمُ
علمتها أن تصوغ الفكر متّسقاً
وأن يُرى مع روح العصر ينسجمُ
وكيف ترتاد وِردَ الشعرِ ظامئةٌ
أو ظاميءٌ لرؤىً سحريةٍ نُهِمُ
وماذا بعد..؟
وخاطبِ الدار إما كنتِ مدرسة
فإنما هذه الذكرى له حرمُ
يستعذب القول في أعتابها لهِجٌ
بذكره، وعلى آفاقه غممُ
تلك اللبانات في علم، وفي أدبٍ
يُحيطها الأكرمان: الخلقُ والشيمُ
محمد رضي الشماسي
يزيد من قسوة هذا الفراق أن الفقد كان شاملاً: الشاعر، والأسرة، والآثار:
مات عبدالوهاب والأهل والأولاد
في ليلةٍ تموج كروبا
فكأنْ لم يكن على الطُّرْسِ شعرٌ
يتغنى بها اليراعُ طروبا
وكأنْ لم يكن على الأرض ظلٌّ
لأديبٍ شقّ الحياةَ دروبا
محمد علي الناصر
رماد
نعم.. لم يبقَ شيءٌ من البيت سوى الرماد، فهل في الرماد بقية من شعر..؟
هناك من راح يبحث وسط هذا الرماد، عن بقية آثاره وشعره، وهناك من وقف ليسأله عن جدوى ما يفعل:
أتبحث عن شعره في الرماد..؟
فهلّا بحثتَ تراب القمر..؟
نغم القصيد
“أوَهّاب” يا نغماً في القصيدِ
ويا نايَ شعرٍ هوى وانكسرْ
تُسائلُ عنك طيور الربى
ويسألك عنك نسيمٌ يمرْ
وعن منزلٍ وادعٍ أنت فيهِ
تداعى ركاماً، وأضحى حُفرْ
وأمام هذا المشهد الفاجع.. مشهد العدم.. ماذا يعني أن يبحث الصديق عن دواوين شاعرنا وسط الركام..؟
أتبحث عن شعره في الرماد..؟
فهلّا بحثتَ تراب القمر..؟
وهلّا سألت رفيف السنى
وهلّا سألتَ نجوم السحرْ
هناك على النجم أشياؤهُ
وديوانُ أشعارهِ المُعتبَرْ
محمد سعيد الجشي
المساء الأخير
للشعر لغته في وصف الحدث، فكيف كان مساء الشاعر والأسرة؟ والطفلة المدللة رقية؟
لنلتقط بعض الصور من هذه الأبيات:
في مساءٍ كان فيه البدرُ يبدو ويغيبْ
جلست في ساحة البيت رقية
ترقب الأنجم في الأفْق السماويّ الرحيبْ
سابحاتٍ في بحار الأدبيهْ
طفلة كالزهرة الغضةِ، كالغصنِ الرطيبْ
كابتسام الفجر للدنيا الهنيّه
وأمام الموقدِ الصابرِ من عهدٍ بعيد
وقف الشاعر ذو القلب الكبيرْ
باسماً كالفجر للبأساء للحظ العنيدْ
لا يبالي كيفما الدهر يسيرْ
حوله الأحلام والأطفال في البيت السعيد
ذلل الصبرُ له كل عسيرْ
هكذا مرّت ساعات المساء، على أسرة يلفقها الحب، برغم بؤس الفقر وضيق المكان:
ثم أغفى الكل في حلم سماوي جميل..
ومضى في آخر الليل القمرْ
وصحا الكل على ذعرٍ من الخطب الجليلْ
فإذا البيت دخانٌ وسُعُرْ
ومضى شاعرنا المحزونُ ذو القلب النبيلْ
ممعناً في لهب النار النظرْ
وهوى يسعى لإنقاذ حبيبٍ وخليلْ
رغم ما يلقاهُ من هول الخطرْ
محمد سعيد البريكي
وبعد يا وهّاب..!
“رحمك الله يا وهّاب، يا دمعة الشعر.. وأنين الأدب.. وعقدة القصة.. لقد كانت وفاتك ورحيل الأسرة فاجعة، يستلُّ منها هواة الكتابة مادةً لوحي النشر والنثر.. وكما هو معروفٌ لديك، إن بعض الأدب انعكاسٌ واقعي لحوادث قريبة، منها الزواج والميلاد، أو النهاية والوفاة”.
حسن علي الزاير
اقرأ الموضوع السابق
[مثل اليوم] حريق كارثي أنهى حياة الشاعر عبدالوهاب المهدي وعائلته