رابع الأربعة.. من هو عبدالواحد الخنيزي…؟ لو كان الشعرُ سيرةً ذاتية لهلكنا جميعاً
كتب: حبيب محمود
بصيغةٍ من الصيّغ؛ يُمكن وصف الشاعر عبدالواحد الخنيزي، بأنه رابع الخنيزيين الأربعة الذين توالى ظهورهم ـ أدبياً ـ منذ أربعينيات القرن الماضي. وقد رحل منهم اثنان، وما زال اثنان منهم على قيد الحياة.
“عبدالواحد” هو أسرعهم إلى الرحيل، وهو الثالث من حيث ترتيب العمر.. وأقصرهم عمراً أيضاً، وفوق ذلك؛ هو أقلّهم إرثاً في الأدب..!
الأربعة؛ هم: الشيخ عبدالحميد الخطي الخنيزي (1338 ـ 1422)، والشاعر محمد سعيد الخنيزي (ولد 1345هـ)، والشيخ عبدالله الخنيزي (ولد 1350هـ). أما عبدالواحد فقد ولد عام 1345، وتوفي عام 1402هـ. وبذلك يكون قد عاش 57 عاماً فقط.
الثلاثة أبناء للشيخ علي الخنيزي، المعروف بكنيته “أبي الحسن”. أما عبدالواحد فهو حفيد للشيخ.. إنه ابن “الحسن” نفسه.
مدرسة واحدة
وما يجمع الأربعة؛ هو ظهورهم إلى مشهد الأدب في القطيف متتابعين، وانخراطهم في مدرسة الرومانسية التي كان يُنظر إليها في أربعينيات القرن الماضي على أنها الشكل الجديد للقصيدة العربية. كان الأربعة جزءاً من مشهد قطيفيّ أوسع ثقافياً وأدبياً، انخرط فيه عبدالله الجشي ومحمد سعيد المسلم ومحمد سعيد الجشي وعبدالله الشيخ جعفر. مثّلت هذه الأسماء طليعة الخارجين على إطار القصيدة الكلاسيكية، ليكونوا جزءاً من الجيل الثاني من الشعراء السعوديين الموصوفين بـ “المجددين”.
نشأ عبدالواحد الخنيزي قريباً من أعمامه، وفي وسط ثقافي كانت لغة أدباء المهجر ومدرسة أبولُّو مسيطرة على لغة كتابتهم. الرومانسية الهامسة، الذاتية، المسكونة بمسحةٍ حزينة صافية. لكنّ “عبدالواحد” خرج على الخارجين أيضاً، ونأى بشعره عن السوداوية التي عُرفت في شعر عمه الشيخ عبدالحميد الماضي المتألّم من محيطه، وكذلك في شعر عمه الآخر، محمد سعيد، المُمعن في الحزن حدّ القتامة.
نحو الفرح
مال عبدالواحد الخنيزي إلى أن يكون أقلّ حزناً، وأكثر احتفالاً بالحياة.
مـلعبـي كـانـتِ النجـومُ العـوالي
ووسـادي مخدّةٌ مـن عبــيرِ
وإذا مـا ظـمئْتُ كـان شـرابـي
مـن يـدِ الفجـر أكؤسًا مـن نـــور
وإذا اللـيلُ مدَّ فـي الأفْقِ جُنْحــا
أطلعتْ شهـبُه صـبـاح ســـروري
كلُّ شـيءٍ – إذا أردتُ – مبــاحٌ
لـيس صعبًا عـلـيَّ صعبُ الأمـور
فكأن الأقـدار تجـري بأمــري
ورِغابـي رغابُهـا وشعـوري
في استنتاجٍ مرتَجل؛ يُمكن القول إن السعادة ـ في الأدب ـ لا تُطيل العمر بالضرورة. عمّه محمد سعيد امتلأ شعره أوجاعاً وشكاوى، حتى أن دوانه الأول كان اسمه “النغم الجريح”، وسواده الأعظم سوادٌ لا يرى في المستقبل ضوءاً حتى. أليس هو القائل:
أرى من زوايا حياتي غدي
فأُبصره روضةً ذاويَة…؟
عبدالواحد؛ على العكس من عمّه، على الطرف المُضادّ للحزن..
تزرعُ الـيأس فـي طريـق مسـاعـيـ
ـكَ، وتشكـو الزمـان والأقـدارا
ابتسمْ للـحـيـاة فـي ظلـمة الأحــ
ـداثِ تُبصرْ عـلى الظلام نهـارا
إنّمـا هـذه الـحـيـاة أُعـدَّتْ
لطَمـوحٍ يُنـازل الأخطــارا
ويرى اللـيل مشـرقًا بـالـمسـاعــي
ويرى الشـوكَ روضةً مِعْطـارا
لا لـمـن يُبصر النهـار ظلامًا
ويرى الخِصـب فَدْفدًا وقِفـارا
لا أحد يزعم بأن “ابن الأخ المُبتهج” يرد على “العم الحزين”. ولكن المؤكّد أن الأول يسجّل موقفاً وجدانياً مخالفاً تماماً لحالة الثاني وموقفه. وربما ذلك هو ما أملى على محرر معجم البابطين أن يقول عنه “في شعره نزعة تفاؤل ومحاربة اليأس والشكوى”.
بالطبع؛ كان عبدالواحد يحارب الشكوى.. كان يُناصر الحياة، ينسجم والجمال، يفتح بصره وشغفه على تفاصيل جريئة؛ إلى حدّ التغزل بجميلةٍ سوداء البشرة، ويُخاطبها:
سوداءُ يا أضوأَ من شمس..!
يا نجمةً في دربي المُمسي
أحسُّ في رجةِ نهديك ما
يُشعِلُ نار الشوق في نفسي
متى يلفُّ الشوق ثغري على
ثغرك يا إشراقة الأنس..؟
إنه شاعرٌ مباشرٌ على نحو ما.. مباشرة تلخّص الحب من زاويته:
قالوا تحبّ نوالاً
فقلت: أعشقُ فاها
كم قبلةٍ لحّنتها
على فمي شفتاها
وذو نزعة دونجوانية فخورة:
كوثرُ، لو سرتِ إلى غايتي
لنلتِ مني ذروة المغنم
مثلك أسرابٌ على منحنى
دربي، ارتمت تبحث عن مغنم
فنلنَ ما أمّلن من بغيةٍ
منّي، ولم أبخل، ولم أندمِ
كم صدراً، كم شفةً، كم نهداً، كم امرأة، كم خيالاً.. ذلك ما يقوله الشعراء.. الشعراء الذين يتّبعهم الغاوون.. لو كان الشعر سيرةً ذاتية، لهلك عمر بن أبي ربيعة، وأبو نواس، والشريف المرتضى، ومحمد سعيد الحبوبي.. لو كان الشعر سيرةً؛ لهلكنا.. جميعاً.