[ميناء القطيف 4] جيش مصري يحتلّ القطيف.. ووباء هندي يجتاح المنطقة من جيش البصرة إلى وقعة الشربة حروب متواصلة
ميناء القطيف
مسيرة شعر وتاريخ
عدنان السيد محمد العوامي
تحت الحكم السعودي
في مستهل القرن الثالث عشر الهجري دخلت القطيف تحت الحكم السعودي سنة 1206هـ، ولكن لم يرد لمينائها ذكر إلا في سنة 1211هــ، في محاولة ثويني بن عبد الله الخالدي، والي المنتفق استرداد القطيف، فهاجمها بجيش محمول على سفن أبحرت من ميناء البصرة([i]).
ثم يعود الميناء إلى الذاكرة مع الوباء الشامل الذي احتاج المنطقة بأكملها قادمًا من الهند([ii])، محمولا في أوردة المسافرين.
ويظهر دور الميناء في عهد الدولة السعودية الثانية، حين تمكَّن علي بن عبد الرحيم وحلفاؤه من العمائر وآل خليفة من الإبحار من سيهات والدمام إلى دارين والاستيلاء عليها وعلى جزيرة تاروت، ومحاصرة القائم بإمارة القطيف عبد الله بن غانم في قلعة القطيف، وقتله، وإحجام الأمير فيصل بن تركي وتراجعه عن التصدِّي لهم بسبب عدم توافر السفن لجنده، وعلمه بخبر اغتيال أبيه([iii]).
الاحتلال المصري الأول
إبَّان الاحتلال المصري للقطيف والأحساء انتهز رحمة بن جابر الجلاهمة الفرصة فهاجم بسفنه ميناء القطيف، وضرب قلعتها بالمدافع([iv])، ولكن التفاصيل الأكثر والأوضح عن الميناء في هذه الحِقبة يرويها لنا القبطان البريطاني جورج فورستر سادلير الذي قدِم إليها بغية التفاهم مع إبراهيم باشا([v])، بعد تدمير الدرعية، في محاولة لإسقاط الدولة السعودية في دورها الثاني، فلننقل مشاهداته بالنص:
سوف أحاول أن أعطيَ أقربَ وصفٍ للقطيف، والريف الواقع في جوارها حسبما تسعفني به ملاحظاتي غير الدقيقة. يبلغ خليج القطيف حوالى عشرين ميلاً عرضًا عند المدخل، ويتَشكَّل من بُوغاز رملي ضيق وطويل جدًّا عند طرفه الشمالي، ومن سهل رملي منبسط على جانبه الجنوبي، ويُسمَّى الطرف الشمالي رأس تنورةRRas Tannoorah ، والطرف الجنوبي يُسمَّى الظهران Addhahran. تقع جزيرة تاروت Taroot في الوسط، وتقابل رأس الخليج، وتقدَّر بحوالى عشرة أميال طولًا، ممتدة شمالًا غربًا وجنوبًا شرقًا، ومزروعة بأشجار النخيل بكثافة، ومزوَّدة بالماء جيِّدًا. من هذه الجزيرة يبرز جُرْفٌ تجاه فتحة الخليج على هيئة محَّارة مِروَحيَّة تقسم الخليج إلى قناتين؛ الشمالية – كما سبق أن وصفت – عميقة وآمنة، تجري موازية وقريبة من المضيق الرملي. والجنوبية ضحلة وصعبة لكونها على مسافة كبيرة من الشاطئ، وهو أيضًا منبسط جدًّا، وما بين القناة والساحل ضحل جدًّا، هذا الطرف به معلم واحد فريد هو ربوة على هيئة قمع السكر (رأس القند) Sugar-loaf hill على البر الرئيسي تسمى الظهران. يوجد أيضًا داخل المرفأ برج أو قلعة تسمى الدمام Addammam، محاطة بالماء، وقد رممت أخيرًا من قبل رحمة بن جابر، وأعلى هذه القلعة تقع قرية سيهات على البر، وبعد قرابة أربعة أميال إلى الأعلى تقع قلعة القطيف قبالة جزيرة تاروت.
القناة الشمالية هي الأكثر أمانًا للسفن، لكنها تقع على مسافة كبيرة جدًّا من القطيف، وللوصول من هذا المرسى إلى القطيف فإن كبار القوارب مجبرة على الدوران حول ساحل تاروت. هذه القناة سهلة جدًّا للعبور، لأنها تتطلب فقط تعديل اتجاه السير ليلائم شكل البوغاز الرملي الضيق، ومواصلة السير مسافةً بطول كيلين من الساحل تقريبًا حتى تصل إلى محاذاة جزيرة تاروت حيث تشير إليك جزيرتان رمليتان صغيرتان في رأس الخليج تقريبًا، وانحسار الماء يعطي إشارة في الوقت المناسب. هنا تكون السفينة آمنة من العواصف الغربية الشمالية، إلا أن القاع رملٌ.
لقلعة القطيف ثلاث بوابات، ذات شكل مستطيل غير متناسق، والواجهة الأكثر طولاًً، التي باتجاه البحر، بها حصن في القرنة أو الزاوية الواقعة في أقصى الشمال، وهو يتزوَّد من نبع ماء جيد، ويفترض أن تكون قد أنشئت من قبل البرتغاليين[vi]. توجد بعض البيوت الجيدة ضمن نطاق القلعة. وعمق الماء في مكان الرسو أعظم منه في سيهات، كما أشير إليه آنفًا، لكنه – حتى هنا – متعب جدًّا. خارج بوابة القلعة الجنوبية تعقد سوق كل يوم خميس، وتجلب إليها البضائع من اللحم والأرُزِّ والتمور والمسك Musk والبطيخ بحجم كبير جدًّا (حوالى خمسة وثلاثين، إلى أربعين رطلاً)، والحنطة والشعير لا ينتجان بالوفرة التي ينتج بها الأرز، ولزراعة هذا الأخير يعزى سوء هواء القطيف. التين هنا وافر، وبمذاق جيدٍ، نوعًا مَّا. ويزرع كذلك بعض المشمش، وقليل من الأنْبا Mangoes، ويزرع أيضًا الرمَّان والعِنَب، والأُتْرُجُّ (الكبَّاد)، والليمون. كما يرى الباذنجان badinjan The brinjal or، والبصل واللوبيا في البساتين، وهي تمتد إلى مسافات كبيرة، محاطة بالصحراء في جانب، وبساحل البحر من الجانب الآخر، ومظلَّلة بأشجار النخيل موشَّاة بالقرى الصغيرة، وكلها تُسقى بصورة حسنة من العيون، ومع أن التربة رملية إلا أنها مؤهَّلة لإنتاج محاصيل وفيرة.
تجارة القطيف، راكدة الآن، وهي تعتمد – بشكل أساسي – على البحرين التي ترد من خلالها البضائع من سورات Surat، وأما التوابل والسكر إلخ، إلخ، فترد إليها من الهند. البحرين في الحقيقة هي المفتاح إلى البحران Bahran والقطيف والعقير؛ ولأنهما كِلتيهما تتزوَّدان من تلك الجزيرة فإن الأحساء والداخل أيضًا يعتمدان على تلك المؤن التي تصل إلى البدو عبر تلك القناة. لم يكن الاستهلاك إلى الآن إلا ضعيفًا بسبب عدم استقرار الوضع في البلد، وانتقال البدو نحو جهة الشمال. تتموَّن الأحساء بشكل رئيس عبر العقير لكونها نقطة الاتصال الأكثر مباشرة، وهذا بالطبع يضعف تجارة القطيف.
التصدير والاستيراد قبل وقعة الشربة
كان الميناء قبل حدوث ما عرف في أحداث القطيف بـ(وقعة الشربة) يشهد حركة ممتازة، نتبيَّن ذلك من كثرة المشاكل التي تحدث من حين لآخر بين أصحاب السفن الأجنبية وتجار القطيف، الناجمة عن اهتراء الحكم العثماني، كما تكشفها مجموعة من الوثائق؛ واحدة من هذه الرسائل تضمن شكوى بعث بها معتمد الهند في البحرين (كنكا وليم تيكم داس) إلى (المستر كاسكن، نائب الباليوز صاحب وجنرال الدولة البهية القيصرية في الخليج)، يشكو فيها (شلال أفندي) لقيامه بمنع مندوب المعتمدية من دخول سوق القطيف لشراء ما جاء من أجله، ومن ضمنه السلوق.
الثانية من متصرف اللواء السيد طالب النقيب يبدو أنها تفنيد لما جاء في الشكوى، داء فيها([vii]):
>جناب الأجل الأفخم، مستر كاسكين، نائب قونسلوس دولت (دولة) البريطانية الفخمة في البحرين المحترم
بلَّغَنا خميس أفندي، حسب أمركم أنَّ بعض تجار بانيان في البحرين قصدهم المجيء للقطيف لأجل تجارت (تجارة) السلوق، فمعلومكم أن بظلِّ مولانا حضرت (حضرة) أمير المؤمنين باب العدالة مفتوحة لمن يأوي إليها، ولا مانع لأرباب التجارة، فلهم الاختيار والحرية في التجارة أينما حبُّو (أحبُّوا). فلأجل المعلومات، وتشييد بنيان المودة، والمصافات (المصافاة) حررت هذه السفر، ودمتم سالمين.
12 ربيع الأول 1321 متصرف لواء نجد
التوقيع: طالب
الثالثة من السيد طالب النقيب نفسه، وفي الموضوع نفسه، حتى أنه يكرر العبارات ذاتها.
في ذات الفترة ترد في دليل الخليج، ج. ج. لوريمر تفاصيل مهمة عن تجارة اللؤلؤ بين البحرين والقطيف تعقيبًا على جدول مدن وقرى البحرين، وما لدى أهلها من السفن والقوارب: >ولقد أصبح من المؤكد أنه في البحرين حوالى مائة سفينة تستعمل في التجارة، وتسير إلى القطيف والعقير وقطر، وساحل عمان المتصالح، ويذهب بعضها حتى إلى الهند وشبه جزيرة العرب….<([viii]).
ميناء القطيف ووقعة الشربة
في قصيدة نظمها صف الشاعر أحمد بن سلمان الصائغ ( الكوفي)، في صفة القلعة ودورها التاريخي ومنه إبَّان وقعة الشربة فقال:
هي القلعة الشمَّاء عاصمة القُرى
إذا نائبات الدهر كشَّر نابها
ألم ترَ إذ أورت لظى الحرب شربةٌ
من الماء شبَّت، واستطال حَرَابها؟
فواعجبًا للنار بالماء تنطفي
فكيف بهذا الماء شعَّ التهابها؟!
غداة على الخط البُداة تألبت
وقد غاب عنها رشدُها وصوابها
وصَبَّت على الأرياف منها مصائبٌ
ولكن بأم السور هان مَصابها
حمت ما حواليها، وآوتْهمُ معًا
وقد وسعتهم بالأماني رحابُها
وما برحت محصورةً في اضطرابها
من البدو حيث القتل والنهب دابُها
إلى أن أتى عبدُ العزيز مظفَّرًا
ومستعمرات الترك حان ذهابها
هناك استقرَّت واطمأنت أمينةً
وزال – بعون الله – عنها اضطرابها
وأسفر بين البدو والحضر الصفا
من الأمن، والويلات ولَّى سحابها([ix])<
وقعة الشربة؛ حرب شبَّ أُوارُها أواخر ليالي حكم الترك للمنطقة، وكان مبدؤها في 19 جمادى الأولى عام 1326هـ، 18يونيو 1908م بين أهالي القطيف وباديتها، تسبب في إشعالها صبيٌّ كان يبيع الماء في جرَّة، حوصرت فيها بلدة الدبيبيَّة والقلعة، وقد اختلفت فيها الروايات، واختبطت، ورُويت فيها المعجزات والكرامات، وكثرت، حتى وصلت تخوم الأساطير، وسُفكت فيها دماء زكيَّة حرَّم الله سفكَها إلا بالحق، واستُشهِد فيها أبطال مؤمنون، ولست متعرِّضٌا لها هنا، فما يهمني منها هو ما يتَّصل بموضوعنا وهو دور الميناء فيها، فمن خلال الرسائل المتبادلة بين قباطنة السفن البريطانية العائمة فوق مياه الشاطئ قبالة الميناء، وتلك الصادرة من معتمدي عاصمة الضباب نستخلص الكثير عنها، لكني سأكتفي بخاتمتها ما دامت مصادر تلك المعلومات متاحة للقارئ.
النتيجة التي أوصلتنا إليها المراسلات هي أن الدولة التركية، تحت ضغط البريطانيين وتهديدهم بالتدخل؛ اضطُرَّت لإرسال فرقة مدفعية من البصرة دفعت البدو للتقهقر، وفكِّ الحصار عن البلد، خلافًا لما روته الأساطير من معاجز وكرامات([x]).
—————–
([i])عنوان المجد في تاريخ نجد، جـ1/225.
([iii])عنوان المجد، جـ2/96، وللتوسع انظر: رواية شيخة، تأليف علي بن حسن أبو السعود، تحرير وإعداد عدنان السيد محمد العوامي، وتظهير عبد الله محمد حسن العبد المحسن، إصدار نادي المنطقة الشرقية الأدبي، 1435هـ، 2014م.
([iv])تاريخ الأحساء السياسي، د. محمد عرابي نخلة، ذات السلاسل، الكويت، 100هـ، 1980م، ص: 36.
([v])يوميات رحلة عبر الجزيرة العربية، من القطيف إلى ينبع، جورج فورستر سادلير، ترجمة عدنان السيد محمد العوامي، مراجعة عبد المجيد سعيد الجامد، نشر مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 1437هـ، 2016م.
( ([vi]هذا من الأوهام، الشائعة، عُد إلى ما مر تجد أن القلعة سابقة على مجيء البرتغاليين، وانظر، أيَّضأ:
([vii])تجارة السلوق واللؤلؤ، فصول من من تاريخ العلاقات التجارية الهندية مع القطيف، مجلة الواحة، العدد الأول، السنة الأولى، محرم، 1416هـ يونيو 1995م، ص: 91.
([viii]) دليل الخليج، ج. ج. لوريمر، إعداد وإصدار قسم الترجمة بمكتب أمير دولة قطر، طبعةجديدة معدلة ومنقحة، غير مؤرخة، القسم الجغرافي، جـ1/309.
([ix]) ديوان أحمد بن سلمان الكوفي، مؤسسة الهداية، بيروت، 1423هـ 2002م، ص: 53 – 54.
([x])مجلة الواحة، العدد الأول، السنة الأولى، محرم 1416هـ، يونيو 1995م، ملف وقعة الشربة، وانظر، أيضًا، الحركة الوطنية شرق السعودية، السيد علي ابن السيد باقر العوامي، نشر رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 2015، جـ1/27 – 28، و43 – 44.