[1] سنوات الملاريا.. “الأنثى الشرّيرة” تغزو القطيف في موجتين

عن سنوات الملاريا في القطيف

سالم الأصيل

المُطَّلِع على سجل المنطقة الصّحي وتاريخها المدوَّن الذي جاء على ذكر الأمراض الوبائية، غالبًا سيدرك أهمية الإحصاءات التي تجري الآن في حصر الأوبئة الحديثة التي تستجد في الشكل واللون وطرق العدوى، لكنها تبقى تحمل الصفة الواحدة في فتكها، أو في اشتغالها تقضّ مضجع الأحياء، وتعكّر صفو حياتهم الطبيعية، الأوبئة الناجمة عن التعايش والتخالط والتفاعل بين البشر أنفسهم من جهة، وتفاعلهم والبيئة بمكوّناتها الطبيعيّة والنباتيّة والحيوانيّة من جهة أخرى.

يذكر تقرير لمجلة الواحة المهتمة – فيما هي مهتمة بشؤون التراث وتاريخ المنطقة -، تقريرٌ نُشر في 14/10/2007م عرض فيه للحديث عن السجل الصحي للمنطقة الشرقية، ويذكر مُحِقًّا أن السجل الصحي للمجتمع، لا يقلّ أهمية عن السجل الصحي للفرد والعائلة، وقد عمد هذا التقرير إلى عرض توثيق مختصر لمجموعة من الأمراض الوبائية التي عانت منها منطقتنا من أواخر القرن التاسع عشر وصولاً إلى القرن العشرين، معتمدين في ذلك على مصادر وثائقية سُجِّلت من قبل المعتمدية السياسية البريطانية في البحرين.

وهي وإن شابها عدم الدقّة الكبيرة بسبب صعوبة الإحصاء وضعف النظام الصحي في ذلك الزمان؛ إلا أنّ أهميتها تبقى كبيرة، فهي لا تُقدّم في إحصاءاتها أرقامًا مجرّدة لعدد المصابين أو الموتى نتيجة الإصابة بهذه الأمراض – الفتّاكة غالبًا- فحسب، بل تُقّدم مُعطى من معطيات دراسة أسباب الحركة الاجتماعية والتنقل بين مجاميع هذه التجمعات البشرية وجغرافياتهم. مُقدِّمةً سببًا من جملة أسباب هجرة وانتقال الناس بين مناطق الخليج، أفرادًا وأُسرًا في تلك الحُقب تأثُّرًا بحركة انتشار وتفشي الأمراض والأوبئة. فالناس لمّا عزّ الدَّواء وقبله اللقاح، لم يكن أمامهم سوى الأساليب التقليديّة الأوّلية التي ما زالت سارية المفعول حِيال كلّ مرضٍ مُستجدّ لمّا يُكشَف بَعدُ عن دوائه، فإمّا العزل والحَجْر، أو الفرار منه إلى أرض غير موبوءة به.

 ومن ذلك يمكن قراءة أسباب ضمن أسباب أخرى من انتقال وهجرة للناس من أراضيهم ومساقط رؤوسهم. إضافة إلى أسباب الضرب في الأرض الواسعة بحثًا عن سُبُل الرزق، وأسباب أخرى لها موارد الحديث الأنسب عنها.

 الأنثى الشريرة!

“ألقِ نظرة.. ها هي!” بهذه الكلمات، بحسب مقال نشره موقع واحة القطيف بنسخته الإنجليزية بتاريخ 30 أغسطس 2006م، نقلاً عن نشرة أصدرتها أرامكو في مارس من عام 1961م، بهذه الكلمات من الدكتور روبرت بيفلي، عالم الحشرات في شركة أرامكو السعودية، أشير إلى بداية اكتشاف المرض في المنطقة مطلع الأربعينيات، بعد أن ركز نظره إلى مجهره، موجّهًا كلماته لزائره. “إنّها الأنثى الشريرة التي تسبّبت في البؤس لقرون للكثير من البشر”.

ولأنّ المرض صار ينتشر بشكل أكبر من أن يسيطر عليه؛ كان عدد الأسرَّة لا يكفي لاستيعاب كلّ المرضى، فصاروا يعطون أولوية السرير للأخطر حالاً والأشدّ ارتفاعًا في درجة الحرارة، بينما يُعطى البقية الأدوية فيعودوا لمنازلهم.

إثر ذلك، وفي العام الموالي، عملت شركة أرامكو – بعد أن تحصّلت على موافقة الحكومة – على إعداد دراسات استقصائية عن وباء الملاريا الذي تفشى في القطيف، وبحسب إحدى وثائقها، أظهرت النتائج في عام 1948م فإنّ معظم الأطفال الرُضّع كانت نتائجهم إيجابية مشيرة إلى حملهم المرض. فعملت على إعداد برنامج مكافحة الملاريا، ووظفت فيه من أبناء المنطقة للعمل ضمنه.

بدأت أرامكو برشّ مادة (دي دي تي DDT -)، ممّا ساهم في خفض نسبة الأطفال الرُّضّع المصابين إلى أقلّ من النصف، كانت 100% فأصبحت 44%، أما الأطفال من غير الرُّضّع فانخفضت نسبة الإصابة من 85% إلى 52%. قبل أن تعود بعد بضع سنوات موجة جديدة من المرض بعد أن اكتسب البعوض الناقل للملاريا مناعة ضد المادة الأولى، فاستبدلوا بها مادة جديدة اسمها (دايلدرين – Dieldrin ) حقّقت نتائج مُبشّرة، متزامنًا مع الدواء الوقائي الذي وُزّع على الأهالي من وزارة الصحة للوقاية من المرض. حتى جاء عام 1957م يحمل تباشير خلوّ الأطفال الرُضَّع من المرض.

ومن ذلك؛ يظهر أنّ المرض استغرق بموجتيه المتقاربتين زمنيًّا ما يزيد عن 15 عامًا تقريبًا قبل أن يختفي من القطيف!

لم تكن تلك الموجات هي الأولى عبر الزمان، لكنها الأشدّ كثافة وخطورة. إذ سبقتها موجة ملاريا كانت مصاحبة لانتشار مرض الطاعون في عام 1909م الذي ضرب البحرين وأناسًا من قطر والقطيف وكانوا يتلقّون العلاج جميعًا في مشفى   VICTORIA MEMORIAL HOSPITAL بحسب المصادر المشار إليها آنفًا؛ المنقولة عن المعتمدية السياسية البريطانية في البحرين.

القطيف المنفى!

يُنقل عن الشيخ حمد الجاسر، المعروف بعلّامة الجزيرة، أنّ القطيف وتحديدًا (الزارة) التي كانت عاصمة إقليم البحرين الكبير، كانت منفى المعارضين والثائرين على الدولتين الأموية والعباسية.

أليس غريبًا أن يُنفى معارض إلى بقعة خصبة؛ مثمرة بدل أن ينفى إلى بقعة جدباء؛ قاحلة؟ ومنطقة حيّة متحضّرة بدل أن يكون النفي إلى منطقة نائية معزولة

الشيخ حمد الجاسر

نعم. يُرجع الشيخ الجاسر – بحسب بحث نشرته واحة القطيف عن تاريخ الزارة بتاريخ 12/1/2004م – سبب النفي آنئذ إلى بلاد البحرين بكثرة المستنقعات المتولّدة عن المياه النبّاعة من عيونها، وتوافر بيئة خصبة لتوالد البعوض الناقل للملاريا بالتالي! حتى قيل إنّ هذا المرض لانتشاره المتعاظم بين سكان الإقليم “أثّر في ألوانهم فأحالها إلى الصفرة، وسبّب انتفاخًا في بطونهم حتى عدّ بعض الأقدمين أنّ من خصائص هذه البلاد انتفاخ البطن، وقد نقل الثعالبي عن الجاحظ قوله: من أقام بالبحرين مدة رَبَا طحاله وانتفخ بطنه”. وقد قيل شِعرًا:

ومن يسكن البحرين يعظم طحاله

ويغبط بما في بطنه وهو جائع

قبل مئات السنين، في بقاع شتى من الأرض، كان ثمة عدوّ خفيّ سمّاه المسافرون الأوائل “حمى الواحة” أو “حمى الخليج”. القاتل رقم 1، وبحسب اعتقاد القدماء وجهلهم بطبيعة ذلك المرض الذي يسببه طفيلي، وينتقل إليهم عبر لدغات البعوض الحامل للعدوى، كان هذا مجهولاً؛ وما هي إلا أعراضه التي تدهم أجسامهم وأجسام أطفالهم خاصة من آلام عضلية وإعياءٍ شديد وارتفاع في درجة الحرارة وقشعريرة ورجفة وغثيان وقيء وآلام في أبدانهم، وربما شملت الأعراض: الإسهال، والتعرّق، وآلام في الصدر أو البطن مصحوبًا بسُعال. هكذا لازمهم زائرًا بين ربيع وخريف حتى بدؤوا يتقبلونه واقعًا كمرضٍ مزمنٍ وجزءًا لا يتجزأ من حياة الواحات التي كان يفتك أكثر ما يكون برضعانها.

الملاريا صناعة بشرية

تبحث البعوضة عن الأماكن الدافئة والرطبة، وهذا هو، بحسب التقرير، سبب قضائها أيامها الهنيئة في قشّ النخيل، ومساكن الطوب في قرى الواحات. وقرى واحة القطيف كانت توفر لها ذلك كله! لذلك كان لها صولات في واحة الأحساء أيضًا.

هذا ما أكّد مضمونه ريتشارد داغي (ت 2001م)، حيث عمل مديرًا طبيًّا في مشفى شركة أرامكو في تلك الحقبة وهو ينقل تجربته بعد بضعة أعوام (1 مارس 1959م) في مجلة The American Journal of Tropical Medicine and Hygiene المهتمة بالطب الاستوائي أو ما يسمى بطب المناطق الحارة متحدثًا عن انتشار المرض في واحتي القطيف والأحساء، مؤكدًا ارتباطه بالمناطق الزراعية، معتبرًا “ملاريا الواحات” من صنع الإنسان؛ لارتباطها بالممارسات المحلية للزراعة. وتوفّر طرق الريّ المحليّة ومخططات الصرف التي توفّر أماكن تكاثر نواقل المرض.

كما أنّ توثيقه في المجلة نفسها يشير إلى أنّ عدد الوفيات بسبب المرض ما قبل السيطرة بين عامي (1941م -1947م) بلغ 8 حالات وفاة بين موظفي أرامكو، و43 حالة وفاة لعموم سكان المنطقة في مستشفيات أرامكو في الفترة نفسها. وهي الفترة التي عُدّت فترة ما قبل السيطرة على المرض.

وقد أوصى ريتشارد داغي – فيما أوصى- في سبيل محاصرة الملاريا في واحة القطيف بالتعجيل بمخطط عام للصرف الزراعي، وخفض مستويات المياه الجوفية!

في الحلقة الثانية، سأعرض شهادة شهود عملوا في برنامج مكافحة الملاريا في القطيف آنذاك، أخذتها عنهم شفاهية.

 المراجع:

http://www.alwahamag.com/?act=artc&id=69

http://qatifoasis.com/?act=artc&id=1219

https://www.moh.gov.sa/HealthAwareness/EducationalContent/Diseases/Hematology/Pages/002.aspx

http://www.qatifoasis.com/?act=artc&id=37

https://www.mayoclinic.org/ar/diseases-conditions/malaria/symptoms-causes/syc-20351184

http://www.ajtmh.org/content/journals/10.4269/ajtmh.1959.8.223

 

لمتابعة الحلقة الثانية

[2] سنوات الملاريا.. شهادات عاملين في المكافحة

تعليق واحد

  1. من المؤسف ان موضوع الDDT لم يأخذ حقه من الجوانب السلبيه جدا بالخصوص الجانب المسرطن فهو اول من جلب سرطان الثدي لأمهاتنا واخوتنا وهو المخرب لعمل الغده الدرقيه للحوامل واجنتهن في الحمل وبعده حتى وإن حصل الكيميائي السويسري باول هيرمان مولر جائزة نوبل في عام ١٩٤٨ (لسوء حظي كانت تلك السنه هي سنة ميلادي)فهذا كان الأخطر بيئيا ولذ قامت الولايات الأمريكيه سنة ١٩٧٢ بمنعه لأنه مسرطن بالدرجة الأولى للبنكرياس وللكبد ومن اغرب الأمور انه اشرس على الرجال البيض بدرجة اعلى من الملونين واي ماده مبيده للحشرات من نوع organochlorine هي مسببه لسرطان الكبد hepatocellular carcinoma ولازلنا لا نعلم ها ان البلديات لازالت تستخدم جيل جديد من عائلة هذا المبيد لأننا نلاحظ تزايد حالات السرطان للثدي في المملكه العربيه السعوديه وحيث لم يتوصل احد للمسبب risk factors in breast cancer ونحن نهيب بدور الصحف المحليه بالأخذ على عاتقها بتشجيع البحث عن المسبب الرئيسي في سرطان الثدي لدينا بالخصوص اخذ عينات دم من الحوامل ومتابعة الأمر في بناتهن في برنامج وطني يؤخذ على عهدة مركز او عدة مراكز بحثيه كفانا الله شر هذا المسرطن المجهول وشكرا لجريدتكم في فتح نافذة للتعريف بهذا المبيد

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×