[2] سنوات الملاريا.. شهادات عاملين في المكافحة أزمة منحت الحمير شأناً رفيعاً.. والناس خافوا المرض.. والحبوب الصفراء

عن سنوات الملاريا في القطيف

شهادة شفاهية لمن عملوا في مكافحة الملاريا من الجارودية

سالم الأصيل

قبل سبعين عامًا تقريبًا، وفّرت شركة أرامكو بالتنسيق مع وزارة الصحة مادة بيضاء تشبه “الطحينية”، يسمّونها (دي دي تي – DDT) واستأجرت عمالاً من قبلها، معهم براميل وُضعت جوار عين الصّدَّين الشهيرة في قرية الجارودية، العين المشهورة بكونها أعذب عيون المنطقة، الواقعة داخل حرم مسورة البلدة الريفية المرتفعة غربًا عن مركز محافظة القطيف أربعة كيلومترات تقريبًا.

صار المشرفون في برنامج مكافحة الملاريا يخلطون هذه المادة إلى الماء في البراميل؛ حتى لا تترسب المادة البيضاء في قعر البرميل. ثم يأتي بعدئذٍ دور العمال المستأجَرين، يحملون على أكتافهم مضخّات الرشّ، فيملؤونها من تلك البراميل.

ليبدؤوا في جولاتهم يجوبون بيوتات القرية، تلك التي لم يكن يخلو واحد منها من الحيوانات والبهائم؛ بقر، حمير، أغنام، ودواجن، أو غيرها من الحيوانات الأليفة، فيبادرون إلى رشّ البيوت من الداخل: الزريبة، والعشة، والمِنْدَبِيَّة (غرفة للسكن) – لا مقابل لها في البيوت الحديثة، وهي عبارة عن جدار مسقوف بالجريد وسعف النخل. تُرشّ هذه الأماكن داخل البيت، وصولاً لغرفة النوم التي يجري رشّها أيضًا.

ولأنّ لكلّ شيء بيئة، فإنّ بيئة بعوضة الملاريا هي المستنقعات، والمياه المتجمّعة دون غطاء ولا وقاء، تتوالد فيها وتتكاثر؛ وتشكل حاضنة لها ومستعمرات.

رمية من غير رامٍ؟!

هذا المُبيد لم يؤذِ الحيوانات التي تُرعى في بيوت أصحابها. في المقابل؛ حسنة من حسناته، كما يقول الشاهد، في الوقت الذي كان غرضه الأساس الوقاية من بعوض الملاريا، أن كان سببًا لخَلَاص قرية الجارودية من العقارب التي كانت تعاني من كثرتها ووفرتها على أراضيها. كذلك ساعد هذا المبيد المُخلّص في الخلاص من عدد كبير من الزواحف المؤذية مثل الفئران والوزغ و”أم سليمون”، والكثير من الحشرات المزعجة والمؤذية.

وفي الوقت الذي تم فيه الخلاص من الزواحف والحشرات المؤذية، كان للحمير شأن رفيع، إذ بعد رشّ هذا المبيد، جيء بغرف مصنوعة من حطب (صندقة)، محاطة بشباك كبيرة، يوضع بداخلها حمير تُستأجر من أهالي القرية، يستأجرونها ليلاً في الموقع الذي يُستهدف فيه البعوض البالغ لاستقطابه، فسرعان ما يقع في الفخ مجتمعًا على ظهر الحمار، فيُشفط من على ظهره لغرض أخذه للدراسة والكشف والتحليل في المختبر. ثم يعاد الحمار إلى صاحبه صباحًا.

درهم وقاية

ثم شرعت وزارة الصحة بعد فترة بتوزيع حبوب وقائية على أهالي المنطقة؛ حبوب صفراء، يَسألُ عنها الأهالي فيُجابون بإيجاز: عن الملاريا!

بادئ الأمر؛ نَفَرَ من تناولها الصغار، ومعظم الكبار، الصغار الذين يُخشى عليهم من خوض المستنقعات وفائض مياه الأمطار التي لم تُصرف إلى مجاريها تحت الأرض، فتكون عرضة لتوالد البعوض الناقل للملاريا، والكبار الذين يخوضون المستنقعات الريفيّة، تلك التي تجتمع فيها المياه الضحلة (السطحية القليلة) والوحلة (الطينية) على حدٍّ سواء. أو حتى تصلهم بيوتهم الرطبة بما تحتوي من بيئة مناسبة لتوالد البعوض. أما الأمهات الحوامل فقد كُنّ يتوجّسن خيفة من الإصابة بالمرض؛ خشية انتقاله للأجنة! كلهم كان عليهم تناول “الحبوب الصفراء”!

تبعًا، صارت فرق مكافحة الملاريا تأتي لأخذ عيّنات دم عشوائية من الناس، للكشف عنهم والتأكد من خلوهم من مرض الملاريا. كان ذلك ممارسة سنويّة منذ العام 1948م حتى العام 1955م لمحاربة هذا العدو ضئيل الحجم كثير الضرر!

وهكذا، لاحظ الناس، يومًا بعد يوم، وشهرًا إثر شهر من تلك الأعوام، تقلّص عدد الحالات المصابة، ثم الخلاص من وباء الملاريا الذي جثم على صدور الصغار والكبار. هذا الذي ما زال ينتشر كثيرًا في بلدان العالم الثالث، وينتقل إليهم عن لدغات هذا البعوض.

أنواع وأجناس

البعوض، بحسب علماء الأحياء اليوم، أكثر من 3000 نوع، وأجناسها تقرب من 35 نوعًا. أمّا أكثرها شيوعًا فثلاثة؛ وهي ما كان يُعرّف إلى العاملين في تلك الحقبة في مكافحة الملاريا في المنطقة: الكيولكس أو البرغش، والأدِس، والأنفوليس. وهذا الأخير هو الذي أُخْبِرَ العاملون عنه؛ كونه الناقل للملاريا المنتشرة آنذاك، وهو المستهدف في برنامج المكافحة للقضاء على الملاريا!

أما كيفية انتقاله، فهو “أن تلدغك بعوضة غير مصابة بالعدوى، فتصاب البعوضة بطفيلي الملاريا المتواجد في جسم المريض، ثم تنقلها إلى جسم آخر سليم عبر لدغه”، فيصاب المسكين بالملاريا. “البعوض يحب رائحة البشر”. هكذا يقول شاهد! كما أنّها تختار وقتًا مبكرًا من الفجر لتفعل فعلتها عادةً!

يضع هذا البعوض بيضه على المياه المكشوفة المتجمعة، تلك التي تشكل له حاضنة جيّدة لفقسه خلال أيام، تخرج منها يرقات صغيرات، تعوم على سطح الماء باحثة عن الغذاء من الطحالب والكائنات الحيّة الدقيقة.

الشاهد الدليل!

بصوت الواثق يقول أحد الشهود: “أستطيع أن أريك يرقات في أطوارها الأولى في هذا المكان الذي نحن فيه الآن – في منطقة زراعية – لكنها لم تصل لأطوارها النهائية التي تسمح لها بإنتاج البعوض الناقل للمرض. ولا البيئة تسمح لها بذلك التطور”. دُرِّبوا وجُنِّدوا رغم حداثة السنّ وضعف التأهيل التعليمي للعمل في تلك الحرب الضروس ضد ذلك البعوض الذي وجد زاده في هذه الأرض الخصبة لتكاثره، فعملوا في الرشّ والكشف عن اليرقات ودراسة أطوارها وتوزيع العلاج الوقائي وأخذ عيّنات الدم حتى.

لا يعرف شهودنا من ذلك الزمان، وبحسب مواقعهم ومهامهم من العمل في برنامج مكافحة الملاريا، ما إذا كان ثمة تشخيص حالات وفاة بسببه، إن كان هذا الميت ضحية ملاريا أو غيره من الأمراض والعلل. يقول الشاهد: في ذلك الزمان، إذا مات شخص، لا نبحث عن سبب وفاته عادة، أو أننا لا نعرف السبب، إن قالوا: مات، قلنا: يرحمه الله!

بهذا شهد شهود عملوا في برنامج مكافحة الملاريا في أواخر الأربعينيّات الميلادية من القرن المنصرم!

للاطلاع على الحلقة الأولى

[1] سنوات الملاريا.. “الأنثى الشرّيرة” تغزو القطيف في موجتين

 

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×