جسر تاروت رُدم بحجارة جبل “الحريف” وجبل “القوم” ومقالع جاوان إعلان لوزارة المواصلات يطرح مشروع الجسر في ربيع الأول 1380
عبدالإله الخنيزي يطالب بـ "فرقة مطافيء" وتعبيد طريق جمرك القطيف
تاريخنا التائه.. بين زهد الأجداد وشغف الأحفاد
الحلقة الثالثة |
عدنان السيد محمد العوامي |
المرحلة الثانية
تمهيد
في الحلقة السابقة عرضت نُبذةً عن (المقطع)، وهو المجاز المؤدِّي إلى جزيرة تاروت، وأحيائها وقراها، وذكرت أنه يبدأ من النقطة التي بدأ منها الجسر على الطريق بين جمرك القطيف والفرضة. هذا في الإجمال، أما إذا أردنا الدقة؛ فالمقطع يبدأ من مكان يُعرف محليًّا بـ: (المِحْدَرَة)، أي مكان الانحدار، أو النزول إلى البحر، وبجانب المحدرة غرفة (ظاهرة في الصورة، إلى الغرب قليلاً من مركز دوريات خفر السواحل (حاليًّا المبنى المقابل للبنك الفرنسي فرع شارع القدس، ظاهر في الصورة أيضًا)، وأرجِّح أن هذه الغرفة كانت لموظف الجمرك المناط به استيفاء (الرفتية) (1).
صرخة القطيف
هذا الطريق أيضًا كان موضع شكوى الناس وتَذمُّرهم. نقرأ على الصفحة 3 من العدد 205 من جريدة اليمامة الصادر في 18/7/1379هـ (صرخة القطيف) يجأر بها قلم الكاتب عبد الإله باقر الخنيزي (رحمه الله)، مطالبًا – في الفقرة الأولى – وزارة الداخلية بإنشاء فرقة لمكافحة الحرائق، وفي الثانية يطالب بلدية القطيف بإصلاح طريق (الفرضة) سالفة الذكر، وبعد ما يقرب من شهر ونصف نشرت اليمامة على الصفحة 3 من العدد 212 في 1/9/1379هـ ردَّ مدير البلدية على خطاب المدير العام للإذاعة والصحافة والنشر (الجهة المسؤولة – آنذاك – عن الإعلام) متفلِّتاً من المسؤولية عن إصلاح الطريق، ملقيًا التبعية على هيئة المشاريع العمرانية على طريقة: (رمتني بدائها وانسلَّت). فالحقيقة أن البلدية هي التي أنشأت الفرضة قبل أن تَنشأ أية إدارة خدمية أخرى، سواء في عهد السلطنة العثمانية أو في الدولة السعودية.
ذكرى أيام
لقد أعادت لي هذه المطالبة ذكرى أيام جميلة، ذرعت فيها ذلك الطريق الهرم مشيًا أو تقافزًا فوق أحجار حائطَيه حين تغمر سطحه مياه البحر، ولن أنسى – ما نسيت – موقفًا مضحكًا، مبكيًا حدث لي مع أحد زملاء العمل (رحمه الله)، كنا في صبيحة أحد أيام الشتاء القارس ذاهبين للعمل في المرفأ، وكانت نقعات الماء منتشرة في معظم الطريق، ونحن ننتصر عليها بالقفز حينًا، وبالالتفاف حينًا، إلى أن وصلنا نقعة (نقعًا) غزيرة لا يمكن اجتيازها إلاَّ بالصعود على حائط الطريق المتهالك. ولأن الزميل (رحمه الله) كان في عمر والدي فإن دواعي الأدب تفرض أن يسبقني إلى العبور، لكنه – لتواضعه – دعاني لأن أعبر قبله، فامتنعت بإصرار حتى استجاب المسكين، وما أن وضع رجله على أحد أحجار الحائط حتى انقلع من مكانه قاذفًا به في البحر على ظهره، وفورًا قفز إلى ذهني بيتان لأحمد شوقي على لسان مجنون ليلى:
لستُ – ليلايَ – داريًا كيف أشكو وأنفجر
أشرح الشوق كله؟ (أم على الظهر في البحُر؟)
وتحريف الشطر الأخير تصرف مني قد يعذرني الشاعر فيه.
متى بُدئ في هذه المرحلة؟
بحكم أنني – وقت تنفيذ هذه المرحلة – كنت أعمل في مرفأ القطيف، فيفترض أنني شاهد عيان عليه، إلاَّ أن الذاكرة لم تسعفني بغير ظلٍّ باهت صرت به (عادلَ إمامٍ ثانيًا (شاهد مشاف شي حاﮔـة)، فكل ما أتذكَّره؛ أنني أُدخِلت مستشفى البحر في القطيف للاستشفاء من الصفراء (أبو صفار) أحد أيام شهر صفر سنة 1382هـ، 1962م، وبعد أيام نقلت منه مع بقية المرضى المنوَّمين فيه إلى مستشفى الربيعية بجزيرة تاروت؛ بسبب قِدَم المبنى وأيلولته للسقوط؛ ولأن نَقْلَنا كان بواسطة السيارات، فبدهيٌّ أن الجسر قد أكمل في هذه المرحلة. معلومة أخرى أسعفتني بها الذاكرة، وهي أن ميزانية تكملة المشروع اعتمدت من قبل وزارة المواصلات عام 1380هـ، وحُوِّل ثمن التعويض عن العقارات التي انتزعت ملكيتها في المشروع إلى بلدية القطيف(2). هذه المعلومة أعرفها بحكم عملي في الشؤون المالية في البلدية، ومسؤوليتي عن صرف التعويضات لمستحقيها، وإن كان الأخ الأستاذ محمد حسن الشيح عبد الله المعتوق رئيس بلدية تاروت يخالفني فيها. أما متى بدئ في تنفيذ هذه المرحلة؟ فسؤال لم أجد له جوابًا عندي، فسألت الأخ الأستاذ المعتوق، فأفاد بأنه لا يتذكر إلا تاريخ افتتاح الجسر في شهر المحرم سنة 1382هـ، وهذا يقارب ما أتذكره عنه.
وبالبحث والتقصي وجدت على الصفحة 6 من العدد 239 من جريدة اليمامة بتاريخ الأحد 20 ربيع الأول 1380هـ إعلانًا عن طرح وزارة المواصلات مناقصة إنشاء طريق يربط بين القطيف (وجزيرتي تاروت ودارين) (3)، وهذا يبين بوضوح تاريخ البدء في تنفيذ المرحلة الثانية.
نَفَّذ هذه المرحلة مقاول اسمه أحمد بن حمد، وفيها تم توسعة الجسر، وإيصاله إلى برِّ الرباط (بر جزيرة تاروت – حاليًّا الضفة الشرقية من القناة الحالية؛ أي الشطر الشرقي من مخطط المزروع وامتداداته شمالاً وجنوبًا حتى نخيل تاروت)، وتم توسعة الطريق الزراعي القديم الذي كان يربط (المقطع) ببلدات الجزيرة (تاروت وأحيائها، والزور، وسنابس، والربيعية، ودارين)، واستخدمت في الجسر صخور برية جُلب بعضها من جبل الحريف (موقعه كان الفضاء المقابل لمغسلة الغانم على طريق العوامية – القطيف الحالي)، وجبل قوم غربي العوامية، ومقالع جاوان شمال صفوى، وربما أماكن أخرى لا أعلمها، وبسبب توسعة الجسر ألغيت القناطر فانحبست المياه، وأعيقت حركة المد والجزر، فأدى ذلك إلى ترسب الطمي فصارت المنطقة أقرب إلى المستنقع منها إلى البحر.
المرحلة الثالثة
عاش الجسر متربِّعًا وحده على عرش المتعة بأصداء النوتية تغتسل بحفيف الموج، وتستحم بزرقة السماء الآسرة، لا يشاركه فيهما أحد إلا العابرين عليه مأسورين بروعته؛ مأخوذين بألق الأفق في الأصيل، وبهجة الشمس لحظة الشروق، حتى حلت بالبحر نكبة (الطفرة)، فاهتبلتها البلدية فرصة للإغارة عليه بالردم، وكأنها تدعو عليه: >أللهم دفنًا دفنا!<
في النصف الأخير من العقد العاشر من القرن الرابع عشر الهجري الماضي، ربما سنة 1396هـ تقريبًا شرعت البلدية بردم المنطقة المعروفة الآن بالمنطقة البحرية الواقعة غرب الجسر (من شمالي شارع الفتح، وغرب شارع الجزيرة حتى الناصرة، وفي الغرب إلى شمال نخل حي باب الساب وشريط النخيل الفاصلة بين البحر وشارع الإمام علي). بعملية الردم هذه امتد الشارع تلقائيًّا فوصل إلى قرية البحاري، فارتبط بشارع فيصل، ثم أكمل بتوسيعه في وضعه الحالي عام 1398هـ، واستقر نهائيًّا بتوسعة شارع الهدلة وربطه به.
لقد أحدث اغتيال البحر صدمة شديدة العنف على أحد الشعراء المرهفين، وهو صديقنا الحميم الشاعر الكبير بدر الشبيب فرثاه بمقطوعة طافحة بالألم جميل أن أنقل نصها:
سيدي البحر، عفوك |
بدر الشبيب |
ندفن البحر، نقيم على أشلائه شامخات القصور، ثم نتَّهمه بالغدر. تَرى؛ من غدَر من؟
شقيقي أيها البحر
وعندك يقبل العذر
على شطآنك انهمرت
بأن طباعَك الغدر
وناغى موجك النهَّامُ
.. جُنّ بصدرنا الصخر
وفي أعماقك استعرت
أساطير لها سرُّ
تسامى العاشق الممسو س
فيها، واكتوى الجمر
تجلى في الهوى الغوَّاص
حتى شفَّه الهجر
يعانق كلَّ حُور البحـر
لكنَّ النوى مرُّ
توهَّج لحظة الإشراق
حتى ضمَّه البحر
فهذا الدر عرقته
وبعض العاشق الدر
وهذا الموج خفقته
ومدُّ القلب والجزر
جلال الحب أن يفنى
بكأس الخمرة الخمر
شقيقي ألفَ معذرة
وعندك يُقبل العذر
غدرنا إذ تسالمنا
بأن طباعَك الغدر
نسينا أو تناسينا
وجن بصدرنا الصخر
أهلنا فوقك الصحراء
حتى استشهد القبر
محونا الوشم من يدنا
فلا طلل ولا شعر
كأن الغدر شيمتنا
وشيمتك الندى الغمر
فعذراً أيها البحر
تطاول فوقك القصر
وهكذا قُضي – بصورة نهائية وتامة – على أحد أهم شرايين الحياة ومصادر الثروة عندنا، وهو البحر. ولكي لا ينسينا البحر ما بدأنا به رحلتنا عن الآثار المكتشفة في جزيرة تاروت؛ أذَكِّر بما أسلفت من عدم صحة ما قاله الآثاري يوريس زاينز جملة وتفصيلا، فالأدوات المكتشفة لم تكن في مقابر، ولا في صناديق، ولم يفقد منها شيء، ولم يسرقها لا أهل القطيف ولا أهل الظهران، وإنما سلمها جميعًا الأستاذ محمد حسن المعتوق، رئيس بلدية تاروت، إلى بلدية القطيف، وبقيت محفوظة لديها حتى سلمتها إلى إدارة المتاحف والآثار، وهي معروضة في المتحف الوطني بالرياض، أما مكان العثور عليها وتاريخه فقد أفادني سيادته بأنه عثر عليها إلى الجنوب من حي الربيعية، بين مسجد الخضر ومستشفى الربيعية بميل إلى الجنوب، أما التاريخ فهو لم يحدده بالضبط، لكنه يَحتمِل أن يكون بين سنتي 1382هـ و1383هـ.
———–
(1) الرفْتِيَّة، أصلها: الصك )السند (الذي يُعطى لقاء ضريبة عاجلة التحصيل على البضائع، ورسم مرور البضائع.) انظر: محيط المحيط)، وأحسبها من الرُّفَت، وهو التبن، فكأنها في الأصل ضريبة كانت تستوفى على الأعلاف، ثم صارت تؤخذ على البضائع المارة في الموانئ، ثم توسعوا في المعنى حتى شمل الضريبة مطلقًا.
(2) في هذه السنة وبنفس الكيفية اعتمدت تعويضات الأملاك المنزوعة لطريق القطيف – البحاري- القديح – العوامية – صفوى- التوبي والقرى الجنوبية: الخويلدية – الجارودية- أم الحمام- الملاحة -الجش. .
(3) دارين بلدة في الركن الجنوبي الشرقي من جزيرة تاروت، ويلتصق بها (حالة) صغيرة في جهتها الغربية.
(4) مجلة الواحة، بيروت، العدد .6، ربيع الثاني 1417هـ ص: 148.
——–
صرخة القطيف إلى وزارة الداخلية
الخنيزي يطالب بـ “مطافيء”، وتعبيد طريق الجمارك
والبلدية ترد: طريق الجمرك ليس من مسؤوليتنا