جاسم الصحيح: القطيف.. آيةُ البحر القديمة

جاسم الصحيح

مُنْذُ الْـتَـقَى بالبَّحرِ هذا (السِّيفُ)

والموجُ يهمسُ للرمالِ: (قطيفُ)!

و(قطيفُ) من بَوحِ المياهِ قصيدةٌ

لا النظمُ يبلغُها ولا التأليفُ

ما طافَها عَصْرٌ وعادَ لأَهْلِهِ

إلَّا عليهِ نَدَى المجازِ كـثيفُ

فإذا الزمانُ اخْضَرَّ بين حروفِها

فـخَضَارُهُ عن إِسمِها تعريفُ

تقتاتُ من صوتِ (الحسينِ) لـجُوعِها

فكأنَّما صوتُ (الحسينِ) رغيفُ!

        

يا آيةَ البحرِ التي صَدَحَتْ بها

أمواجُهُ.. ماذا عسايَ أُضِيفُ؟!

آتِيكِ مُلتَبِسًا بـزورقِ لهفتي

لِـيَ في النوارسِ مُرشِدٌ وحليفُ

آتِيكِ في (البحرِ الفصيحِ) مُجَدِّفًا

وأخافُ أنْ يتعلثمَ التجديفُ!

بوحُ الهوى تحكيهِ دارجةُ اللُّغَى

ويطيبُ فيهِ النَّحتُ والتصحيفُ

وأنا الهوى الريفيُّ حيث صبابتي

لغةٌ يترجمُها إليكِ الرِّيفُ

لا تَخْدَعَنَّكِ فِـيَّ قُوَّةُ حبكتي

للحرفِ.. إِنِّيَ في الفؤادِ ضعيفُ!

صُدِّي جَمَالَكِ عن هشاشةِ جوهري

وترفَّقي.. بعضُ الجمالِ مُخيفُ!

وإذا تَوَحَشَّتِ القصيدةُ في دمي

لا تفزعي فمِنَ الوحوشِ أليفُ!

وإذا مَجَنْتُ على هواكِ، فإنَّما

قلبُ المَحَبَّةِ كالأذانِ نظيفُ!

ينحازُ لي فِقْهُ الجنونِ فأَدَّعي

أَنَّ المجونَ الشاعريَّ عفيفُ

        

ويَمَسُّني من ذكرياتِكِ خاطرٌ

كالنَّايِ في عَزْفِ الشُّجونِ، خفيفُ

فلقد أَتَيْتُكِ والزمانُ خميلةٌ

ولقد أتيتُكِ والزمانُ خريفُ

فطلعتِ لي في الحالتَينِ حديقةً

تختالُ فيها خضرةٌ ورفيفُ

أطوي شوارعَكِ الفسيحةَ حَالِمًا

لو أنَّني في عَرْضِهِنَّ رصيفُ

يأوي إليَّ العاشقونَ ومِلْؤُهُمْ

وَجْدٌ أَدَقُّ من الخيالِ، رهيفُ

وأصيخُ حين يُحَدِّثُونَ فأنثني

وعَلَيَّ من شجر الكلامِ حفيفُ

ولقد عَرَفْتُكِ والزمانُ ضمادةٌ

ولقد عَرَفْتُكِ والزمانُ نزيفُ

فطلعتِ لي في الحالتَينِ حقيقةً

لم يَرْقَ في معراجِها، التحريفُ

تَتَأَبَّطينَ عواصفَ الزمنِ التي

هَدَرَتْ، ولم يَنْحَلَّ عنكِ (نصيفُ)!

        

(ولقد ذَكَرْتُكِ) حين رَأْسُكِ في المَدَى

شمسُ الحضارةِ.. والرؤوسُ كُهُوفُ!

أرضٌ كَأَنَّ الأبجديَّةَ وَجْهُها

وملامحَ الرملِ النبيلِ حُروفُ

من مبتدَى (سيهاتَ) حتى منتهَى-

(صفوَى) يطوفُ الوحيُ حيث نطوفُ!

وقُرَاكِ في (تاروتَ) بحرُ قصائدٍ

والقافياتُ (بنادرٌ) وجُروفُ

وثَرَاكِ في (دارينَ) كُـتْبُ حضارةٍ

حيث التضاريسُ العِتَاقُ رُفُوفُ

من ها هنا مَرَّ السُّراةُ وغادروا

(بُجْرَ الحقائبِ).. والزمانُ أَلُوفُ!

وهُنا استقرَّ الأولياءُ فـمَعْبَدٌ

عَبِقٌ، ودَيْرٌ بالبَخورِ شَغوفُ

وهنا الصلاةُ بِـكُلِّ موجٍ هامسٍ

تنسابُ نشوَى، والمياهُ صفوفُ

وهنا (اللآلئُ والحريرُ) قوافلٌ

تترَى، وحُجَّاجُ العطورِ أُلوفُ

وهناكَ (قَلْعَتُـ)ـكِ الأميرةُ تَتَّكي

أحجارَها حيث العصورُ وُقُوفُ

وتُطِلُّ من أعلى الزمانِ على المَدَى

حيث الشواطئُ في المكانِ عُكُوفُ

فإذا المراكبُ في الخليجِ سواعدٌ

طُولَى، وأشرعةُ الرحيلِ كُفُوفُ

وإذا الحضارةُ في مدارِ عصورِها

عُرسٌ يغنِّي، والظِّلالُ دفوفُ

وإذا رِجَالُكِ يَعرُجونَ مع الصَّدَى

صُعُدًا، ولو أنَّ المَّدَى مَسْقُوفُ!

من مبتدَى (سيهاتَ) حتى منتهَى-

(صفوى) جباهٌ تعتلي، وأُنُوفُ!

هُمْ أجلسوكِ على الزمانِ (مليكةً)

والخُلدُ حول (بلاطِـ)ـها مكتوفُ

يا سَعْدَ مَنْ نَفَرُوا إليكِ بِـحَجَّةٍ

من شَوقِهِمْ، ميقاتُها مَلْهُوفُ!

وتَنَسَّكُوا بين النخيلِ بمَشْعَرٍ

للمُبدِعِينَ جَمَالُهُ موقوفُ

من مبتدَى (سيهاتَ) حتى منتهَى-

(صفوى) يَمُدُّ بِسَاطَهُ، المعروفُ!

ويداكِ تاريخُ السنابلِ، كلَّما

نَفَضَتْهُما الرَّجوَى تطيحُ قُطُوفُ

لم تُتْبِعي مُسْتَرفِدِيكِ بـمِنَّةٍ

سِيَّانِ مَنْ وَفَّوا ومَنْ لم يُوفُوا!

        

يا آيةَ البحرِ القديمةَ؛ لم يَنَلْ

منها على مَرِّ اللغاتِ، كسوفُ

في داخلي شوقٌ يُجَدِّدُ نَفسَهُ

بِكِ رَاوَدَتْهُ خواطرٌ وطيوفُ

أنا لم أَصِفْكِ فحيثُ أَوْشَكَتِ النُّهَى

والوصفُ كادَ.. تَجَرَّدَ الموصوفُ!

لكِ من هوايَ هِلَالُهُ في بَدئِهِ

وعليكِ بَدرُ خِتَامِهِ مَعطُوفُ

إنْ تسأليني: مَنْ أكونُ؟! فـغَيْمَةٌ

عَبْرَ الفضاءِ، مصيرُها مخطوفُ

وأنا المتاهةُ حين تجهلُ ذاتَها

ويضيعُ منها وجهُها المألوفُ

وأنا الإشارةُ لا سبيلَ لكَشْفِها

حين الوجودُ حقائقٌ وكُشُوفُ

وأنا ببستانِ التَّصَوُّفِ عاشقٌ

رَيَّانُ.. من غُصنِ الهوَى مقطوفُ

وأنا -إذا جَسَّ الهواءُ جديلةً-

أَحْسَسْتُ أَنِّيَ لحنُها المعزوفُ

وأنا بريدُكِ يا (قطيفُ) فقَبِّلي

وجهَ البريدِ، فمِلْؤُهُ (الهُفُّوفُ)!

ذو القعدة 1441هـ/تموز 2020م

‫8 تعليقات

  1. أطربتنا أيها المبدع الكبير وأدهشتنا بهذه الأبيات الرائعة، وحلقت بنا عالياً في فضاءات الجمال والإبداع والمعنى، فلك ألف تحية وتقدير، ودمت مبدعاً متألقاً، ياشاعر الوطن المُجِيد.

  2. كل التحية والتقدير للشاعر المتألق دائماً الاستاذ جاسم الصحيح.
    قصيد ذهبية تخال نفسك عند قراءتها انك تطير فوق السحاب.
    كم انت جميل يا شاعر العرب

  3. قصيدة رائعة تنساب رقة وزلالا وتزخر بصور جمالية فاتنة تنم عن قدرة وصدق لأحد شعراء العرب الكبار في العصر الحديث. جاسم الصحيح الذي سيبقى شعره خالدا على مر الزمن

  4. لقد أجاد وإبداع الشاعر الكبير في حق القطيف. كل التحية والتقدير والاحترام لجنابكم لجنابكم الشاعر.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×