[1] بستان السيحة وسَمَر في الذاكرة
عدنان السيد محمد العوامي
بمهارة الصحفي الأديب، أطلَّ الأستاذ محمد رضا نصر الله على قراء صُبْرة، بمطالعته الرشيقة (بين جيمين)، تحدث فيها عن الشاعر الكبير الأستاذ عبد الله الجشي، (رحمه الله)، وأستاذه الجواهري، ولست أجزم إن كان قِصر تلك المطالعة، حول قامة شامخة كالجشي، جاءت بداعي مشاغل أبي فراس الكثيرة، أم فرضها الحيِّز المخصص من صبرة، ومع ذلك لا أجد سبيلاً للعتب، فأنا نفسي غيرُ بريء من التبعة والملاحقة، فطالما خالجني إحساس عميق بالتقصير في حق هذه القامة السامقة وحقِّ مجاييلها؛ خصوصًا وأنني أحد المعنيين بالجشي، فقد حزت شرف جمع رباعياته وطباعتها، ومراجعة شعره، والإشراف على طباعته، وحظيت أيضًا بالمشاركة في تنظيم أول احتفال تكريمٍ أقيم له في القطيف، بمبادرة من منتدى الثلاثاء، ورعاية السيد علي العوامي (رحمه الله)، والمشاركة في ندوة تأبينه بمركز الشيبخ حمد الجاسر في الرياض([1])، وأنبت عنه في حفل تكريمه في اثنينية الشيخ عبد المقصود خوجة بجدة، وقبل هذا وذاك ناكفته في مهجره بأن بعثت إليه بقصيدة (رسالة إلى مغترب)([2])منها:
ضفافَ الهوى، غنِّي الحبيبَ المغيَّبا |
عسى العاشقَ المفتونَ أن يتَأوَّبا |
سلا الظِّلَّ مسْفوحًا على الماءِ مترَفًا | ووهْجَ السَّنا مُلْقىً على الرَّمل مُتْعبا |
ومَلَّ الهوى لونًا على النخلِ مهرقًا | ورَوْحًا كرَوْحِ المترَفاتِ محبَّبا |
وجافى بمخضَلِّ الضِّفاف أحِبَّةً | تعشَّقَهم حتَّى اكتوى وتعذَّبا |
وغنَّاهمُ بَوْحَ اليراعين أحرُفًا | ألذَّ من المجنونِ سِحرًا وأعذَبا |
وما زالَ مشبوبَ الخيال، إذا شدا | جرى العِطرُ في رمْلِ الضِّفافِ فأعشبا |
كأنِّي بشطْآن الخليج تَرشَّفت | زُلالاً على شبَّابتَيه مذَوَّبا |
إذا مدَّ في مهوى السرابِ شراعَه | وعارضَ بالموجِ المعانِد مَرْكَبا |
أراك فتىً فوقَ العُبابِ مُشمِّرًا | يضُمُّ على المِجدافِ كفًّا مُدَرَّبا |
يطارحُ فوق اليَمِّ نجمًا ونوْرَسًا | ويُؤْنسُ – تحت الليل – قِلْعًا وكَوكَبا |
وإن جدَّ خلفَ الفاتناتِ يَراعُه | يَجُوسُ عليْهِنَّ الخباءَ المُطنَّبا |
أسالَ هوىً يُوْري الحُشاشاتِ وهْجُه | وإن كان عُذْرِيَّ العَفافِ مهذَّبا |
يعيشُ بأجفان المِلاحِ مُهَرَّبًا | وما ذا يكون العِشقُ إلاَّ مُهَرَّبا؟ |
فعاشِقَةٌ تُخفِيه تحتَ وِسادِها | ووالِهَةٌ تُبقِيه سِرًّا مغيَّبا |
كأنَّ الهوى كأسٌ عليه مُقدَّرٌ | يُعَلُّ بِهِ أوْ أنْ يلامَ ويُعتبا |
فإن نسِيَ النَّهدَ الصبيَّ مُرَفَّهًا | وتاب عن الثَّغْرِ الشَّهيَّ مُطيَّبا |
فما نسي الرَّملَ الحبيبَ مبَعثِرًا | عليه رُعافَ المَحْجَرَينِ مخضَّبا |
* * *
على الرَّبَواتِ الفِيْحِ أرسى خباءه | يسامِرُ دَيْجُورًا، ويُسْهِر غَيْهَبا |
وفوقَ رُبى دارينَ ألقى رِحالَه | يطنِّبُ للعُشَّاقِ في الشَّمس مَضرَبا |
ومرَّ على الأحساء يشكو جِراحَه | وسيَّر من يَبْرِينَ للعِطرِ موكِبا |
وأودعَ في سِيْفِ المنامةِ مرَّةً | حشاهُ فما ألفاهُ الاَّ ملبَّبا |
ومدَّ الخُطى يسقِي على الوجْدِ فدْفدًا | ويَنضَحُ جُلْمودًا، ويخصِبُ سَبْسَبا |
ويشكو الهوى الممطولَ أهداب نخلةٍ | وجدْولَ فَيْروزٍ على الرَّملِ مُسْهَبا |
فلم يَثنِ عن دربِ المُحِبِّينَ خُطوةً | ولم يبْغِ عن وهج الصَّبابَات مهْرَبَا |
فبلَّغَ نجدًا من رؤى الخانِ صبْوَةً | وحيَّا، على ضَوءْ المنَارةِ، يثْرِبا |
ومدَّ جناحًا في ذُرى الشامِ، وانثنى | يُنفِّضُ في شمسِ الكِنانةِ مَنْكِبا |
وحين لوى حول المشاعر زنده | طوى في الحنايا زمزمًا، والمُحَصَّبا |
من هنا ينتابني شعور بالمسؤولية، خصوصًا تجاه الشبيبة من جيل اليوم، فهم يتطلعون إلى معرفة المزيد عن رموزهم الوطنية والأدبية، والدينية، وها قد استعاد لنا الأستاذ أبو فراس ذكرى أعدها أثيرة لدينا نحن معاصري تلك الحقبة الثرية بالعلم والأدب والثقافة، ذكرى سمر أدبي أقيم ذات مغربية في بستان (السيحة)([3]) المملوك للأديب الأستاذ عبد الله بن علي إخوان([4])، هي قلادة الدر على جيد القطيف، أكتبها بملء الحرف، وإن عدني البعض غاليًا في نعتِها بقلادة الدر، فقد حفل ذلك السمر بضروب منَ اللآلئ، سواء في النثر أو الشعر. فالنثر نلمسه في عنوان كلمة الدكتور أمين الخولي هل البلاغة في الصمت([5])؟ وفي سؤال همست به بنت الشاطئ للجشي، غبَّ فراغه من نثر درته الثمينة:
هذي بلادي وهي ماضٍ عامرٌ | مجدًا وآتٍ، بالمشيئةِِ، أعمر |
وبقي – حدَّ اللحظةِ – بلا جواب: (هلا دللتني على قبر خولة؟).
ذلك السمر، ما هو؟ ومتى أقيم؟
حفل أقامه مثقفو القطيف مغربَ يوم السبت، 4 جمادى الأولى 1370هـ10 فبراير 1951م، في السيحة، وهي بستان في سيحة الدبيبية بالقطيف، قريب من سوقها، مملوك للأديب الوجيه عبد الله بن علي إخوان، احتفاءً بوفدٍ من جامعة الملك فؤاد (القاهرة حاليًّا)، زار القطيف، وفي معيَّته الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، وقرينُها الدكتور أمين الخولي، ولم يبلغني أن أحدًا كتب مفصلاً عن ذلك السمر باستثناء الدكتورة بنت الشاطئ نفسها، في كتابها (أرض المعجزات) ([6])، والسيد علي السيد باقر العوامي في مجلة الواحة، بيروت، العدد الثاني، ربيع الثاني، 1416هـ، سبتمبر 1995م، ص: 168 – 175، وأعيد نشره في كتابه (جهاد قلم)، جمع وإعداد الفقير لعفو ربه كاتب هذه الأسطر([7]).
عبد الله بن علي إخوانرسالة متصرف لواء نجد إلى علي بن منصور إخوان
يتبع غداً
———–
([1])الرابط: https://chl.li/LIRZ5
([2])الرابط: https://chl.li/JTXeq
([3])السيحة: بستان يقع في سيحة الدبيبية، قبالة الركن الغربي الشمالي من بلدة الدبيبية، تحول جزء منه إلى حي سكني منه حسينة سعيد المناميين، وبعضه يقع ضمن شارع الملك فيصل حاليًّا.
([4])عبد الله بن علي بن منصور اخوان، ترجمه السيد علي العوامي في “رجال عاصرتهم”: (والده علي بن منصور أحد الشخصيات البارزة التي لعبت دورًا في – هو وصديقه علي الفارس- في التمهيد لدخول الملك عبد العزيزالقطيف، ولد عبد الله اخوان في عام 1321هـ 1903م، وتوفي في محرم 1390هـ مارس 1970م. رجال عاصرت)، مجلة الواحة، العدد 14، الرابط: https://chl.li/56cqY،
وأضيف: كان والده علي بن منصور شغل منصب رئيس بلدية القطيف، في العهد التركي، كما تبين ذلك رسالة متصرف لواء نجد المرفقة.
([5])خيوطٌ من الشمس، محمد سعيد الشيخ علي الخنيزي، مؤسسة البلاغ للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1420هـ، 2000م، جـ1/187.
([6]) الرابط: https://chl.li/P2oNF
([7])نشر مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، ودار أطياف، القطيف، الطبعة الأولى، 1440هـ 2019م، ص: 267، وأرض المعجزات، الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، دار الكتاب العربي، بيروت، د. ت. (من بعيد)، ص: 129 – 142.
اقرأ ايضاً