النوخذة.. دكتاتور أصمّ لا يسمع إلا صوت نفسه 40 قرناً من السُلطة المطلقة في البحر والبر
يبدأ البحّار رحلته بدينٍ يوثّقه بـ "بَرْوَهْ" ويسدده بعد "القَفال"
“يا نوخذّاهُمْ لا تصلِّبْ عليهُمْ.. ترى حبال الغوص قصّص إيديهُمْ”.. بهذا الشجى تستعطف الأهزوجة قلب “النَّوخَذَهْ” ليرأف بالبحّارة الذين تشقّقت أيديهم من أثر حبل الغوص. الأهزوجة يعرفها الخليجيون بصوت المغنية عودة المهنّا، وهي تُغنّيها على لسان أمّ تطلب من قائد السفينة “النّوخذهْ” أن يلين مع أبنائها، ألا يقسو عليهم، فهمْ ـ أصلاً ـ متعبون من الرحلة الطويلة والعمل الشاق..!
وعلى سطح السفينة، وحين يأخذ البحّارة الطرب، يُنشدون بصوتٍ كوراليٍّ واحد “يا نوخذهْ هَوِّنْ علينا الشدايدْ”. وهذه الأنشودة ترمي إلى طلب الرأفة، وتخفيف الشدّة.
حياة البحر شديدة، رحلة الغوص شديدة، الأمواج شديدة، كلّ شيء شديد، والمطلوب من “النَّوخذهْ” أن يهوّن على البحارة شدائدهم.. ألاّ يكون قاسياً مثل قسوة واقعهم..!
نوخذّهْ
قُبيل موسم الغوص؛ يتهافت البحّارة على بابه، يتوسّلون فرصهم، يأمل كلٌّ منهم في الانضمام إلى الرحلة. الغوّاص، والسّيب، والطباخ، والنهّام، وكلّ ذي جسدٍ قادرٍ على مشقّة العمل في السفينة أربعة أشهر بلا راحة. حتى اليافعون تحدوهم الرّغبة في مغامرة البحر الأولى، ولو في وظيفة “تبّاب”، بأجر ضئيل أو “رضيف”.. أي غوّاص تحت التدريب..!
وظائف السفينة محدّدة ومحدودة، وطالبو العمل كُثُر، وللنَّوخذة رؤيته المهنية في اختيار المناسبين والقادرين على الانقطاع عن اليابسة طيلة أشهر البحث عن اللؤلؤ. واقع الأمر؛ هو أن النَّوخذة لم يكن يعرض وظائف، بل يبيعُ فرصاً بيعاً، ويضع شروطه على طالبي العمل، ويُملي ما يريد على أشخاص لا مال لديهم، ومضطرُّون إلى الغياب عن أهليهم أكثر من أربعة أشهر..!
هنا؛ تبدأ لعبة الانتقاء المركّب..
أمام النوخذة بحّار محترف، لا مال لديه، ويحتاج إلى دخول البحر ليحصل على مال وفير من حصة الغوص. وقبل الغوص يحتاج إلى تأمين معيشة أهله طيلة مدة غيابه. الحلُّ هو “البَرْوَهْ”. والبروة هي وثيقة مُداينة يحرّرها المدين للدّائن ضماناً للدين. البحّار يستدين من النوخذة، على أن يُعيد إليه ماله بعد “القفال”، أي بعد العودة من رحلة الغوص..!
40 قرناً
توارث الإنسان الخليجيّ نظام الملاحة البحرية على امتداد 40 قرناً من في أقلّ التقديرات. وفي هذا النظام؛ برز “النَّوخذَهْ” رمزاً إداريّاً واجتماعيّاً في آنٍ معاً. من الناحية الاجتماعية؛ ينتمي “النوخذة” إلى طبقة “الشُّيوخْ”، وهي الطبقة التي تضمّ الأثرياء من النّواخذه والطوّاشين ومُلاّك السفن في المجتمع البحري القديم.
وفي الموروث الخليجيّ الراهن؛ يُعامل “النَّوخَذَهْ” من زاوية الأبّهة التي كان يتمتّع بها “قائد السفينة” القديم. وفي المناطق الساحلية؛ انتشر الاسم في مسمّيات تجارية ومحافل فلكلورية كثيرة. كما يُعبَّر به في وصف القائد الحاذق العارف بأسرار القيادة القادر على التعامل مع صعوباتها.
أما من الناحية المهنية؛ فإن البحّار لا يصل إلى منصب “َنوخذَهْ” من دون روافع تجعل منه جديراً بقيادة السفينة وإدارة شؤونها. لا بدّ من خبرةٍ طويلة أمضاها على أسطح السفن، ودراية بمواقع مغاصات اللؤلؤ “الهيرات”، ومعرفة كافية بعلم الفلك والنجوم. إلى جانب ذلك؛ عليه أن يتحلّى بقوة في الشخصية تمكّنه من السيطرة على السفينة ومَن عليها وما فيها لمدة طويلة.
النَّوخذة هو واضع خطة الرحلة، ومحدّد احتياجاتها التموينية والتشغيلية، وصاحب القرار في اختيار رجالها. وبعد ذلك هو الآمر النّاهي فيها، هو “الإدارة العليا” التي على الجميع الانصياع إليها انصياعاً تامّاً. وحتى يتمكّن من ذلك يحتاج إلى مساعدين يؤدّون مهامّ “الإدارة الوسطى”، وغالباً ما يتجسّد ذلك في واحد، أو اثنين، يحمل كلّ منهما وصف “مقدمي/ مجدمي”، ليكون رئيس البحّارة.
تشغيل
تُبحر السفينة، ينقطع البحّارة عن ذويهم، ينهمكون في تنفيذ المهام تحت إمرة النّوخذة، تتوزّع المهام عليهم، كلٌّ حسب موقعه. “الغواص” ينغمس في الأعماق جامعاً الأًصداف يوماً بعد يوم. يساعده “السّيب” على ظهر السفينة بحبل قويّ. يتولى “السكوني” قيادة السفينة، يجدّف البحارة الآخرون.. خدمة السفينة مستمرّة على يد الطباخ والصبية الصغار. وفي الليل ينشرون الأصداف على سطح السفينة ليُطلّ كوكب الزهرة عليها و “يباركها” كما تدّعي الخرافة القديمة.
في أوقات الراحة يهربون من تعبهم إلى أغاني البحر، وإيقاعات “الطِّيران” و “الطبول” وصوت “النّهام” الذي يجرّ صوت الـ “يامال” في ليالي الوحشة.
عزّال
أجندة العمل واضحة للرؤوس الكبيرة في السفينة، وللتنفيذيين الصغار. وهي تُنفَّذ حرفياً بلا نقاش. في عرض البحر المتلاطم، لا رأي لأحدٍ فوق رأي “النوخذه” الذي جهّز كلّ شيء، واختار كلّ فرد. النظام الموروث يخوّله إصدار الأوامر مستنداً إلى تقديراته أو تقديرات “المعلّم” الذي اختاره مستشاراً في الرحلة.
وفي نظام إداري بهذه الصرامة والحزم لا مكان للشكوى أو التقاعس أو التلكؤ في تنفيذ الأوامر. يمرض بحّارٌ، وحين يطول شفاؤه يُحال إلى نظام “العَزَّالْ” الذي يعني إبعاده عن فريق العمل، ليعمل ـ في السفينة ـ لحسابه الخاصّ، ويدفع خمس ما يحصل عليه من لؤلؤ للسفينة مضافاً عليه قيمة طعامه وشرابه.
صَمَخْ
تفيض شكاوى البحارة، يتضجرون، يصطدم بعضهم ببعض.. يصل الأمر إلى ربّان السفينة، فيعد بالحلول، أو يتجاهل، أو يصرف نظره عن وضع الحلول. كأنه أصمّ. ومن هنا ظهر المثل “صَمخْ نواخذه” الذي يعني “صمم الربابنة”، ويدلّ على متجاهلي الشكوى وصارفي انتباههم عن الحقوق. ويرادفه مثل آخر هو “عمّكْ أصمخْ”، يدلّ على أن من شكوت إليه أصمّ لا يسمع ما تقول، وبالتالي؛ فلا حلّ للمشكلة.
تقسيم الحاصل
تمضي الأشهر الأربعة كدّاً وكدحاً وتعباً يتلوه تعب في أبدان البحارة. ثم “يقفلون” عائدين إلى الديار في سبتمبر.. يعودون مشحونين بشوق الأهل والأحبّة، يعودون بحصيلة اللؤلؤ التي غرّبتهم في البحر القاسي. ويُقسّم “الحاصل” من أرباح اللؤلؤ بعد حساب حقّ السفينة وحقّ المأكل والمشرب. وفي النظام المتوارث يحصل النوخذه على 3 أسهم من الأرباح، وكذلك “الغيص”، ويتفاوت الآخرون في الأسهم، فمنهم من له سهمان، أو سهم ونصف السهم، أو سهمٌ واحد.. وهكذا.
“الحاصل” هو ما يتمّ تقسيمه، الحاصل هو الخُلاصة النهائية لحظوظ البحّارة العائدين من الغربة. فرحهم بالعودة قد يُشرخ إذا كان الحاصل ضئيلاً، والقسمةُ أقلّ من قيمة تعبهم طيلة الأشهر الأربعة.. بعضهم يعود غنياً، وبعضهم يعود ليدفع ما حصل عليه في سداد ديونه، وبعضهم يعود خاسراً.. حتى دينه لا يمكن تسديده كاملاً..!
هنا؛ يتذكّر البحّار توسّله “النوخذه” قبل أربعة أشهر.. دينه الذي حصل عليه منه.. يتذكّر “البَرْوَهْ” التي قيدته والسداد اللازم..!
تقول بعض القصص إن سداد الدين يتمّ باستيلاء “النوخذَهْ” على بيت البحّار العاجز عن السداد، أو باستيلائه على إحدى بناته زوجةً بلا صداق..!
توزيع أسهم أرباح الغوص |
- النوخذة: 3
الغواص: 3
السيب: 2
السكوني: 1.5
الرضيف: 1
الـنهـام: 1
الطبـاخ: 1
طاقم سفينة الغوص |
- نَوْخَذّهْ: ربّان السفينة الأول.
قعدي/ جعدي: نائب النوخذه.
مقدمي/ مجدمي: رئيس البحّارة التنفيذي.
سكوني: مسؤول دفة السفينة.
غيص/ غوّاص: جامع المحار من قعر البحر.
سِّيب: على سطح السفينة يسحب الغيص لإخراجه من القاع.
رضيف: صبيّ يقوم بأعمال خفيفة، وله سهمٌ.
تبّاب: صبي متدرّب له ليس سهم، بل إكرامية.
نَهّامْ: مُغنّي يسلّي البحارة.
طبّاخ: مسؤول التغذية.
جلاّسْ: بحّار احتياطي.
عزّال: غواص يعمل لحسابه الخاص.
[كتاب] صائد اللؤلؤ |
صحافي فرنسي: أعمار الغواصين.. قصيرة
جبت البحرين وطفت بكلتا الجزيرتين، ولم أبحث عن الشبان الذين كانوا لا يزالون في حالة صحية سليمة – إذ كانوا في المغاصات في البحر- وإنما المسنون فقط، أولئك الذين تبلغ أعمارهم ثمانية وعشرين وتسعة وعشرين عاما.
وقد عثرت عليهم جالسين في الأسواق وسط الذباب وهم يسعلون.
– صباح الخير يا صديقي إليك هذه الروبية.. وومضت عيناه.
– هل لديك لؤلؤة صغيرة جداً تبيعني إياها؟
لا توجد لديه.
– كم عمرك ؟
عمره ثلاثون عاما.
– هل غصت لفترة طويلة؟
ثلاث عشرة سنة.
– والآن ألم تعد تقدر على الغوص؟
وكشف عن صدره الذي يؤلمه، وشرح لنا أنه أصيب بالمرض في وقت مبكر، وبما أن ابنه صغير جداً ولا يمكنه الغوص فقد احترف التسول، أما أبوه فقد عاش أكثر منه بكثير : إلى سن الأربعين.
وقلنا له : ولكنك لا زلت حيا!
وقال مندهشا: هذا صحيح !
وعلى بعد مئة متر منه يجلس شخص آخر مستندا على متجر للتبغ. وقلنا له:
– صباح الخير!
ورد قائلا: صباح الخير
– إذاً ألم تعد تغوص؟
– هذه مشيئة الله.
– أهل أنت عجوز؟
– نعم أنا عجوز جدا.
– كم عمرك الآن؟
– ست وثلاثون سنة.
.. إن المصابين من الغوص على اللؤلؤ لا حصر لهم، وبوسعك أن تراهم في أي لحظة، ما عليكم سوى التوقف قليلاً ومعاينتهم.
… أيتها السيدات عندما تطوقن أعناقكن بعقود اللآلئ، تذكرن جميع هؤلاء المساكين البائسين ومعاناتهم).
لوندر ، صائدو اللؤلؤ
محسن الشبركة
فيس بوك
اقرأ أيضاً
[وثيقة] 9 بحّارة من القطيف يتظلمون عند الملك عبدالعزيز ضدّ جشع “النواخذة”