محمد بو مَرَة.. مثقف ضدّ الطائفية معلم ومسرحي عشق "قيس وليلى" ورحل بهدوء ليبقى في وجدان أجيال

ابنته رقية: كافح من أجل الثقافة وأحب السلام

القطيف: شذى المرزوق

3 أيام مضت على رحيل محمد أحمد بومرة، ربما ستمضي 3 عقود، أو أكثر حتى، ليغادر ذاكرة من عرفه في مسقط رأسه سيهات، وفي عنك، والدمام أو حتى الكويت، أو في أي مكان حل فيه هذا الأحسائي الذي نزحت أسرته إلى سيهات قبل عقود، وعاشوا فيها حتى أصبحوا “سيهاتيين”.

معلم فاضل، تخرجت على يديه أجيال متعاقبة، إداري تجاوز حدود الإدارة إلى التربية بأساليب قد تبدو غريبة جداً في الستينيات والسبعينيات من القرن الميلادي الماضي، ومنها أسلوب “دراما الواقع”، وأيضاً فنان مسرحي “مُلهم”، سواءً في موطنه أو خارجه.

وبعد مسيرة عطاء تواصلت لأكثر من 5 عقود؛ وبعد معاناة مع المرض، رحل بومرة بهدوء يوم الأربعاء الماضي، تماماً كما عاش 76 عاماً، مجللاً بالهدوء، وفي داخله يسكن “عاشق متيم”، حتى أنه اسمى ابنه “قيس” وابنته “ليلى”.

تنقل بين مدارس عدة في سيهات: الأندلس الابتدائية، النموذجية، ابن خلدون، ابن القيم، سيهات المتوسطة وموسى بن نصير، قبل أن يتولى إدارة مدرسة في مدينة عنك، ويتقاعد عام 1988، ليورث اثنين من أبنائه هذه المهنة: قيس وليلى.

معلم مُلهم

الناقد محمد العباس، أحد تلامذة الراحل بومرة، يرى أنه “لم يكن معلماً بالمعنى الكلاسيكي، يقدم دروسه ويتابع الواجبات مع الطلاب ويغادر الفصل. كان مُلهماً للمبدعين، محفزاً، مشجعاً، صانع محطات نقلت بعض تلامذته لأفق جديد، وإنجازات فارقة، سواءً في عالم الفن والتمثيل، أو حتى على المستوى الاجتماعي، وكذا العملي”.

محمد العباس

كتب العباس في صفحته على “فيسبوك”، بما يشبه الرثاء لمن علمه قبل زهاء 4 عقود، واصفاً إياه بأنه “المعلم الذي كان يخلق من دائرة مرسومة على السبورة، ورسومات تعبيرية، موضوعاً للنقاش بينه وبين طلبته، منصرفين عن نصاب المنهج المدرسي”.

يصف طريقته التعليمية “كانت تمر الحصص كمتوالية من القصص الشهية التي يختزنها في ذاكرته، لدرجة أنه يتجاوز الخطوط الحمراء أحياناً، فيسرد لنا قصصاً عن الحب. ولهذا السبب بالتحديد عرفنا أن ابنه اسمه قيس، وابنته ليلى، فهو لا يكف عن الحديث عنهما، وأسباب تأثره بقصة الحب الخالدة بين قيس وليلى”.

مسرح من العدم

ينقل العباس عن الراحل عدداً من القصص ابان حقبته التعليمية “لم يكن في مدرستنا الحكومية البسيطة مسرحاً، ولأنه يعشق النشاط المدرسي بكل أشكاله: الثقافية، الفنية، الإذاعية والكشفية؛ اشترك مع مدرس الرسم الفلسطيني سعد الدين (أبو ماجد) في بناء مسرح من العدم، نعم بنيناه نحن الطلاب في حصص الرسم بأيدينا الطرية. كنا نحمل الطوب والاسمنت والرمل، حتى أصبح المسرح ماثلاً أمامنا كمبنى”.

يواصل سرد تجربتهم المسرحية “بدأ الأستاذ محمد بومرة في تشكيل فرقة مسرحية، حيث اضطلع بكتابة النصوص، وتدريب الممثلين وتجهيز المسرح، وبالفعل تمكن من تخريج دفعات من الممثلين الذين ساهموا في تكوين حركة فنية معقولة بمقياس تلك اللحظة، امتدت مفاعيلها إلى نادي النسر (الخليج حالياً) ومحطة تلفزيون الدمام”.

مُبتكر دراما الواقع

انتقل العباس وزملاءه إلى المرحلة المتوسطة، وانتقل معهم بومره وكيلاً لمتوسطة سيهات، يقول “هنا؛ ابتكر (الراحل) أسلوباً توعوياً يمكن أن أسميه دراما الواقع. فهو ناشط اجتماعي بالمعنى الخلاق للكلمة، حيث كان يختار مجموعة من الطلاب المعروفين بتمردهم، ويتفق معهم على تصويرهم وهم متلبسين بمحاولة الهروب من المدرسة. لقطات مثيرة لهم وهم يتسلقون سور المدرسة، يكتبون على جدرانها، يرمون الفضلات، يتعاركون مع بعضهم، وبعد ذلك يعلق تلك الصور في لوحات موزعة في ردهات المدرسة، لتنبيه الطلبة بأن المدرسة ليست فوضى، وأن كل من يفكر في تخريب النظام سيتم تصويره وتقديم صور إدانته إلى الوزارة، كدليل على سوء تصرفاته واستحقاقه للعقاب”.

‎المشكلة – كما ينقل العباس – أن الطلاب الذين تواطأ بومرة معهم “أفشوا السر، فأبطلوا مفاعيل حملته التوعوية، ومنذها لم يعد أحد يأخذ إجراءاته على محمل الجد، لدرجة أنه كان يمر على الفصول الدراسية، وهو يحمل ملفاً مزدحماً بالأوراق، وقد ألصقت في وسط الملف سيجارة بدبوس، كدليل على أن صاحب الملف المدموغ بعبارة سري جداً قد قبض عليه وهو يدخن في المدرسة، وأن المعاملة في طريقها إلى الوزارة. ولكن تلك الحبكة الدرامية لم ترعب الطلاب بقدر ما أعطتهم فرصة أجمل للاقتراب منه، وتقليص المسافة مع أستاذ ودود يجيد تجميل الحياة بالقصص والمواقف المدبرة، والأهم أنه يحرض على التمرد بالجمال، لا العصيان المُفسد لجمالية الحياة”.

فنان أديب

يتسلم الفنان علي السبع، دفة الحديث عن معلمه في عقد الستينات من القرن الميلادي الماضي، محمد بومرة، مسلطاً بعض الضوء على  مدى تأثيره على مسيرة الشباب في سيهات، فناً وأدباً، خاصة بعدما التحق في نادي الخليج عضواً في اللجنة الثقافية آنذاك، لينقل تجربته على مسرح النادي مدرباً لعدد من أبناء سيهات، في الخطابة والإلقاء والتمثيل، متبنياً مبادرات اجتماعية وثقافية وأدبية.

يقول السبع لـ”صبرة” “بومرة معلم وضع أسس اجتماعية وثقافية فارقة في سيهات، لم ينل حقه كاملاً”، مشيراً إلى مساهمته “الفاعلة” في الحراك الاجتماعي والثقافي، وأهمها “تأسيس الفرقة الكشفية الأولى في نادي الخليج ابان رئاسة أحمد المعلم (رحمه الله)، وتنظيم الحفلات والمهرجانات وتقديم المسرحيات، وإخراجها، ساعده في ذلك اهتمامه في الفن، والخبرة التي اكتسبها لاحقاً من التجارب الفنية التي خاضها”.

“نوادر جحا “والصالون الأدبي

يصف السبع، بومرة بـ”المعلم المرشد الذي كان له دور أساس في إحداث تغيير ايجابي في حياتي وحياة عدد من طلبته، ومنهم الفنان حسين الهويدي، بعد تخطيط جيد استثمر فيه طاقتنا الإبداعية، موجهاً إياها التوجه الصحيح”، مشيراً في ذلك إلى أن له “رؤية متفردة وبصيرة نافذه لا يمتلكها الكثير من المعلمين”.

ويذكر أن معلمه هو كاتب ومؤلف المسلسل المحلي الأول على قناة تلفزيون الدمام “نوادر جحا”، الذي شارك فيه السبع، والفنان حسين الهويدي، والفنان عبدالناصر الزاير، مبيناً أن الراحل استأجر مبنى في حي الطابوق (النور حالياً)، مؤسساً بذلك صالوناً أدبياً، يجتمع فيه المثقفون للقراءة والتمثيل، وكان يدفع مصاريف ذلك الصالون والإيجار من جيبه الخاص.

تأسيس الحركة الكشفية

يبدو أن هذا التوجه الفني كان يتملك الفقيد قبل مغادرته المملكة إلى الكويت، مكتسباً خبرة أكبر، وتجارب أكثر، يؤكد ذلك الناشط الاجتماعي منصور الرميح، الذي يقول لـ”صبرة” “كان من الرعيل الأول في مسيرة نادي النسر (الخليج حالياً). وكان من المؤسسين للجان الاجتماعية والثقافية في النادي”.

يضيف الرميح عن الراحل، الذي كان أيضاً أحد معلميه، “ساهم مساهمة كبيرة في الحراك المجتمعي، وأيضاً من المؤسسين للحركة الكشفية في النادي، التي ساهمت بدورها في المجتمع، وهو من الرعيل الأول في الحركة المسرحية، حيث قدم الكثير من المسرحيات في سيهات، وغادر إلى الكويت ليعمل في الفن هناك، وعاد إلى البلد لاحقاً”.

مُخرج وكاتب في الكويت

وإذا كان ما رواه العباس والسبع والرميح، يحاكي بعضاً من بومره المعلم، المربي والفنان، فإن رقية، وهي واحدة من 13 بنتاً و4 أولاد أنجبهم الراحل، تسلط الضوء على جوانب أخرى من حكاية والدها الراحل.

تقول لـ”صبرة” “اهتمام الوالد بالفن والثقافة والأدب لم يأت من فراغ، فهذا الاهتمام والشغف بقي متوهجاً باستمرار، ولكن طموحه لم يقف عند حد مسارح الأطفال والطلبة، وتأسيس إذاعة مدرسية وأخرى في النادي، بل دفعه لمغادرة البلاد للكويت، ليكتسب خبرة من تجارب واقعية ملموسة”.

تضيف “انتقل الوالد إلى الكويت بعد تحريرها من الغزو العراقي عام 1990، وعمل في تلفزيون الكويت مخرجاً لعدد من البرامج، منها: اللحظة الأولى، سهرة قرقيعان، مساء الخير يا كويت، وبرامج أخرى لا تسعفني الذاكرة الآن لاستحضارها، كما عمل في قناة الأنوار”.

مثقف ضد الطائفية

كتب الراحل بومرة في مجلة “الجديد في الطب”، حيث كان له عمود باسم “بطاقة دعوة”، تضيف رقية عن والدها “كان رجلاً مكافحاً من أجل الثقافة والفن، مولعاً بالقراءة في شتى المجالات، محباً للسلام بين جميع الطوائف والمذاهب”.

فيما يقول أخوها الرادود علي بومرة، عن أبيهما “صاحب ابتسامة ودودة، يشارك الجميع الحديث والنقاش، لا يترفع على أحد، ترك إرثاً وأثراً جميلاً بأخلاقه وطيبته”.

ما سبق بعضاً من سيرة الراحل محمد بومرة، تقدمه “صبرة” التي تسأل الله للراحل الرحمة  والمغفرة، ولأهله وذويه الصبر والسلوان.

 

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×